Issue 4: Counterlexicons

حوار مع الكاتب ياسين الحاج صالح: "ثَمّة فَلسْطنة للمحكومين وأسرَلَة للحاكمين"

ياسين الحاج صالح

ما زال 7 أكتوبر، وما أعقبه من حرب إبادة ضد الشعب الفلسطيني، يُشكل زمنية تَفتح على التفكير في نواحٍ عدة من الحياة: نُظم المعرفة، القيم، السياسة، أنظمة الحكم، العلاقات الدولية، الحقوق، مصير المجتمعات، إلخ. وقد حاولت “المفكرة القانونية” من خلال هذا الحوار الذي أجرته مع ياسين الحاج صالح قراءة المآزق البنيوية التي عرّاها هذا النموذج التدميري، في منطقتنا والعالم، والتفكير في دلالاتها وآثارها المستقبليّة على المجتمعات والدول.

ياسين الحاج صالح هو كاتب سوري ومُعتقل سياسي سابق، من مؤسسي فريق aljumhuriya.net، زوج سميرة الخليل المعتقلة السياسية السابقة،
المُغيّبة منذ أكثر من عشر سنوات على يد تشكيل سلفي مسلّح. يقيم حالياً في برلين.
المفكرة القانونية: ما نَشهده اليوم من إبادة جماعيّة وحصَار مُطبق مستمرّين على الشعب الفلسطيني، يَضعُنا في مواجهة مع نزعة تدميرية تسعَى إلى أن تكون نموذجا لإدارة المنطقة والعالم، يقضي على كل ممكنات سياسية وحقوقية للتغيير. برأيك كيف تقرأ اتجاهات هذا النموذج التدميري؟
ياسين الحاج صالح: برأيي إسرائيل كانت على الدوام نموذجا أو “باراديغم” للإبادة السياسية في منطقتنا. مفهوم البوليتيسايد يعني القتل الجمعي لأسباب سياسية (مثال: الحزب الشيوعي الإندونيسي عام 1966)، أو القتل السياسي لجماعة، قطع رأسها سياسياً، واحتمال إبادة الجنس إن تمرد المعنيون؛ الشعب الفلسطيني في هذه الحالة. لذلك تجد إسرائيل كينونتها كلّما تعمَّمَ هذا النموذج، وكلّما قامت نظم المنطقة على الإبادة السياسية مثلما هو جارٍ في سوريا، حيث نجد وجهين في علاقة الإبادة: فَلَسطنة السوريين وأسرَلة النظام. والأمر يتعدّى سوريا بدرجات مختلفة، إذ أن أكثر الأنظمة العربية أعادتْ إنتاج الحالة الإسرائيلية بأيدٍ محليّة.

لكن ما يَجري اليوم هو قَفزة مَهولة في الاستباحة والإبادة السياسية للشعب الفلسطيني، وتفيض عن غزّة إلى الضفة الغربية المحتلة، وإن ليس بنفس الدرجة الدرامية من التدمير والقتل والفُجور والاستهتار. لكنّه أيضاً تدمير مُثابر ومنهجي، يقضم الكيان الفلسطيني عبر الاستيطان وتدمير البيوت وتنكيد العيش والقتل المباشر. ما يبدُو لي جديداً نسبياً في هذه الأوضاع، اليوم، هو بذاءة وسوقية حلفاء إسرائيل وحماتها في دعمهم لها، شيء يُذكّرنا بأيام ذروة الاستعمار الغربي، عندما كانت النظريات العنصرية والحضارية تُعطي شرعية للتوسع، وتُصنّف الشعوب إلى بيضاء لها حقوق السيطرة على العالم وشعوب أخرى أقلّ أهمية ولا بأس في أن تُستغلَّ مواردها وأن تُستعبَد بأشكال مختلفة. يُعَاد كل هذا اليوم في فلسطين عبر انحياز -لم يكن من الممكن تخيّله في السابق- من قبل القوى الغربية، وعبر تبنٍّ كامل لإسرائيل وشعور كامل بأنها معركة مشتركة. هناك ما يشبه “الوحدة الوطنية” داخل الإطار الغربي مع العدو الإسرائيلي، حيث لا صوت يعلو فوق صوت معركة إسرائيل ضد غزة المحاصرة منذ عام 2006، و”حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها”. وأعتقد أن هذا يُعطي رسالة للفلسطينيين أولاً ولكلّ العرب في إطار أوسع، أن هذا هو المستقبل الذي يُرَاد تصميمه لسكان هذه المنطقة. معركة فلسطين لذلك هي أوسع من فلسطين، إذ أنها تُشكل النموذج الذي يَصنَع ممكنات لمن ينضبطون لباراديغم الإبادة السياسية، وهذا مثلمَا صنع النظام الأسدي بسوريا إمكانيات إبادية للأنظمة العربية، ولإسرائيل بالذات. إذ أن أحد مسؤولا إسرائيليا تساءل: لماذا لا يُرحل الفلسطينيون إلى مصر مثلمَا جرى تهجير ملايين السوريون سابقاً إلى تركيا؟

لقد صُنِعَت ممكنات من أجل تحويل البشر إلى قابلين للاستباحة، أي النموذج الذي يتحدّث عنه جيورجيو أغامبين Giorgio Agamben تحت اسم “الهومو ساكر” homo sacer، حياة خارج النظام الحقوقي، مردودة لبعدها البيولوجي، قتل الهوموساكر لا يُشكّل جريمة، وليس لحياته قيمة معنوية أو تضحوية، فهو ليس شهيداً أو صاحب قضية. وهذا اليوم ممارس على نطاق جمعي في فلسطين، وقد مُورس على نطاق واسع في سوريا، وهو بصورة ما النموذج المعتمد في مصر. لدينا مزيج وحشيّ من النموذج الفاشي والاستعماري التقليدي. ونجد أن هذا النموذج يُعَاد إنتاجه في منطقتنا ككل، وهو وَاعد بالمزيد من الاستباحة والإبادة في رأيي.
المفكرة: برغم إعادة إنتاج النموذج الإسرائيلي في أكثر من نظام حكم عربي، ما زلنا نشاهد حتى اليوم أنظمة عربية تتبنى خطابا يدافع عن القضية الفلسطينية وتَعتبر نفسها جزءا من محور المقاومة أو “الممانعة”، كيف نقرأ هذه الحالة؟
الحاج صالح: علينا أن نُميّز بين الوقائع البنيوية والوقائع المُتصلة بالخطاب. على المستوى البُنيوي هناك تعميم لنموذج الإبادة السياسية، من خلال التعامل مع السكان كفائضين عن الحاجة، وهذا ظاهر جدّا في سوريا، وبدرجة ما في مصر. إلا أن مستوى الفظاعة تَحقّقَ أساساً في سوريا وفلسطين. من خلال هذا النموذج البنيوي، ثمة فلسطنة للمحكومين وأسرَلة للحاكمين على نطاق واسع، فكلّنا فلسطينيون بدرجات مختلفة. انظر كيف أن 7 ملايين سوري، نحو 30% من السكان مشردون ولاجئون في بلدان قريبة وبعيدة، في مشهد فلسطينيّ مُستمرّ. أليست هذه نكبة أخرى؟ هذه الوقائع البنيويّة أهم من الوقائع الخِطَابية التي قد تكون أدوات للتعبئة وبناء الشرعية. فعندما يتكلم النظام الأسدي في سوريا -أو ما يسمى بنظم الممانعة- عن فلسطين، فهذا من وقائع الخطاب أو وَقائع الإيديولوجيا، بينما وَاقع الحال يُكذّب ما يقوله المقال. واقع الحال أنك تتعامل مع محكومِيك (شعبك) كفائضٍ بشريّ؛ فتعتقل وتُعذّب وتغتصب وتقتل وتقصف وتُبيد وتُهجّر. ولكن أدوات إضفاء الشرعية أو بناء قضية مَا هي أقل وزناً في هذا الباب، وهي استعمال أدَاتي لقضية لها رصيد وشعبية، ولكن هذا الاستعمال يَدخل في تناقض مستمر مع الوضع البنيويّ. ومثلما نرى، تُركَت غزة وحيدة خلال أزيد من خمسة أشهر إلى اليوم. ومثلما نرى كذلك، أبطال التطبيع مع إسرائيل، الإمارات والسعودية، هم أنفسهم أبطال التطبيع مع حكم العائلة الأسدية.

المفكرة: إلى جانب الأنظمة العربية، القوى الغربية المهيمنة تعيش تناقضاً كبيراً بين الممارسة والقول، وهو ما جعل الصورة التي تصف الغرب بالمتغطرس والمنافق تحظى بالمقبولية أكثر من أي وقت مضى، الأمر الذي يَحمل في طيّاته أيضا شعورا متناميا بنهاية قيم كبرى، أبرزها الديمقراطية. هل أن هذا الاتجاه يَرسم صورة حقيقية حولَ ما يجري؟

الحاج صالح: أعتقد هنا، وفي نفس سياق التمييز بين وقائع البِنية ووقائع الخطاب، أن الدول الغربية لم تكن أبداً قُوى دمَقرَطة في منطقتنا. هناك استخدَام أدَاتي من قبل الغرب للخطاب المقبول عالمياً والذي يُنظر له إيجابياً، الديمقراطية وحقوق الإنسان، تماما مثلما تستخدم قضية فلسطين من قبل محور الممانعة. لكن لأن فكرة الديمقراطية مهمة وهي مكسب للشعوب في الحقيقة، فإنه يستحسن ألا يحصل عليها الأعداء من أمثالنا. البِنية الفعلية مثلما تبدو في غزة هي بنية كولونيالية شديدة الفظاظة، وهي حتى على مستوى الخطاب كانت هذه المرة وقحة وقليلة الدبلوماسية. يصعب على ذاكرتنا أن تنسى تصويت برلمانات غربية ضدّ وقف إطلاق النار في غزة، واستعمال الأميركيين حقّ النقض (الفيتو) ضد وقف النار.
وهذا ربّما مهمّ في نضالنا من أجل الديمقراطيّة وضدّ أشكال متجدّدة للسيطرة الدولية. النضال من أجل الديمقراطية لا يَضعنا في خندق واحد مع الأمريكيين أو الأوروبيين، بل بالضبط عكس ذلك. الديمقراطية إن استطعنا كسبها هي بمثابة “غنيمة حرب”، مثلما قال كاتب ياسين يوماً عن اللغة الفرنسية. ويبدو الجماعة واعين لذلك ويفضّلون لنا نظماً تسلطيّة أو حتى إباديّة.

لكن في الوقت نفسه، يجب أن نكون ضدّ الأشكال العدميّة من العداء للغرب على ما يفضّل إسلاميون وقوميون عرب. ومن الأفخاخ المهمّة التي يجب أن نتجنبها اليوم -ونحن منفعلون وغاضبون- التفكير بطريقة “نحن” و”هم”، أو التفكير برؤية قَبَليّة tribalisation للصراع. أسوأ أعدائنا موجودون في الغرب، صحيح، ولكن أحسن أصدقائنا موجودون هناك أيضاً من مواطنين وناشطين ومثقفين غربيين في بلدان متنوعة. لذلك من المهمّ أن نتجنب الفخّ المَاهَوِي أو الفخ الجوهراني، أي أن نَعتبر الأمريكيين والأوروبيين أشرارا فقط لأنهم أمريكيون أو أوروبيين، وهو عداء له نفس بِنية الإسلاموفوبيا أو العربوفوبيا الذي يتعامل معنا ككتل بشرية متجانسة، كشخص جمعي يُكره ويميز ضده. من المهم أن نبحث عن شركاء نعمل معهم، وهم موجودون وكثر. الأوضاع العالمية أشد تشابكاً من أي وقت سبق، لدرجة أنه قبل أسابيع تمت الدعوة في أكثر من منطقة في العالم إلى إضراب عالمي من أجل غزة، وهذه الفكرة كانت ممتنعة التصور حتى وقت قريب. أما اليوم عبر تداول معلومات عالمي كان بالإمكان الدعوة إلى إضراب عالمي. وبغض النظر عن مسألة النجاح، فإن الدعوة وصلت لمليارات البشر بأشكال مختلفة. ففي هذا العالم لا نستطيع أن نُفكّر بمنطق القبيلة، ولا بد من شراكات نعمل ضمنها من أجل عالم مختلف، يقوم على الأخوة والمساواة والشراكة والاحترام .

أما بخصوص الديمقراطية، فهي تمرّ بأزمة في كل مكان بالعالم. وأخشى بالفعل أن الديمقراطية قد تنهار في الغرب نفسه كأحد الاحتمالات، مثلما انهارت الاشتراكية السوفياتية قبل عقود من داخلها. عدوّ الديمقراطية هو التيارات اليمينية الشعبوية الصاعدة في الغرب، وقد صارت في السنوات الأخيرة أقرب إلى قلب المشهد السياسي بعد أن كانت على هوامشه البعيدة. والنخب السياسية الغربية اليوم تتصرف من دون حسّ بالمسؤولية الاجتماعية التي كانت موجودة أيام الاشتراكية السوفييتية وتناسخاتها. بالعكس، تتبنى عناصر من برامج اليمين المضادة للاجئين والمهاجرين للفوز بالانتخابات، فتصير السياسة كلها انتخابات، ويجنح المشهد السياسي بمجمله يميناً. ودون أن أقوم بتنبّؤ مُضلّل، يتراءى لي أن الديناميات الشغّالة اليوم قد تؤدي إلى انهيار الديمقراطية، أو فشلها في الدفاع عن نفسها ضد عملية التآكل المستمرة التي تتعرض لها. من أجل ذلك أيضاً، نحن محتاجون للعمل مع شركاء من أجل دمقرطَة أوسع في بلداننا وفي العالم، والوقوف في وجه التيارات الأنتي-ديمقراطية.

المفكرة: في ظل هذه الأزمة العالمية التي تمر بها الديمقراطية، ما هي الملامح التي تلوح أمامنا إذا حاولنا تخيل مصير العالم في المستقبل القريب؟
الحاج صالح: يبدو لي أن وضع العالم اليوم هو وضع اللاّبديل، ليس هناك بديل أو TINA، مثلما قالت مارغريت تاتشر قبل أربعين عاماً. وهو ما يعني أن البديل الوحيد عن الشكل الديمقراطي الليبرالي السائد في بلدان الغرب، لكن المتآكل اليوم، هو هذا الشكل نفسه، وهو شكل يتعاقب عليه أمثال بايدن وترامب في أمريكا. واليمين المتطرف أو ما كان يُعتبر يمينا متطرفاً، قبل عشر سنوات، يَصير اليوم مقبولا أكثر فأكثر؛ لدينا مارين لوبان في فرنسا وربما غدًا حزب البديل من أجل ألمانيا، وقبلها صعود اليمين المتطرف في هنغاريا، ومؤخراً انتُخبَ في الأرجنتين رئيس سُوبَر-يميني، وربما ترامب عائد في أمريكا. هذا ما تَعد به الآليات الحالية للديمقراطية الليبرالية في ظل ضعف البدائل اليسارية. وفي بلداننا يُقال لنا صراحة أنه ليس هناك بديل، والبديل الوحيد عن الحكم الأسدي هو هذا الحكم الوراثي النيوسلطاني، الذي يصرح علانية بأنه باق إلى الأبد، ويرفع شعرات عدمية من نوع الأسد أو لا أحد، أو الأسد أو نحرق البلد. الأبد ليس استمرارية هانئة، ليس استقراراً مريحاً، بل هو حرب مستمرة ضد المستقبل بغرض إعدام أي بدائل محتملة أو وأدها في مهدها. لهذا السبب، أعتقد أن شرط اللابديل العالمي هو “سوريالي”، تعميم عالمي للأبد السوري الذي هو أكبر نكوص اجتماعي ثقافي سياسي في تاريخ سوريا منذ عصر التنظيمات العثماني، عودة إلى سلطانية محدثة بالغة الضراوة.

عوض أن تذهب سوريا باتجاه عالم ينفتح قليلاً، صار العالم أشبه بسورية في العشر سنوات أو أكثر الأخيرة. هذا يضعنا أمام تحدّ كبير، تحدّي خلق بدائل، خلق لغة جديدة، خلق شبكة تفاعلات جديدة، تضَامنات جديدة. نحن في أزمة لهذا السبب، وهي أزمة عالمية، وأزمة اليسار والديمقراطيين جزء منها.

المفكرة: في ظل هذا الاختناق البدائِلي، الذي يُهدّد أفكارا كبرى مثل الديمقراطية وحقوق الإنسان، ما هو الأفق التجاوزي الذي بالإمكان التفكير فيه؟
الحاج صالح: فكرة حقوق الإنسان لا تَعوم خارج الأطر السياسية للمجتمعات الحديثة، والإطار الأساسي المهيمن هنا هو الدولة- الأمة. أوافق على نقد حنة آرنت لفكرة حقوق الإنسان بأن الأمر يتعلق بالأحرى بحق في الحقوق مرهون بوجود جماعة سياسية، وليس بالفرد المجرد. لكن حتى وجود جماعة سياسية مثل الدولة الأمة لا يضمن أنها إطار للحق في الحقوق إلا في بعض البلدان، مثلما نعرف جيداً في بلداننا. وحتى في بلدان الديمقراطية الليبرالية، فإن الحقوق تشهد تراجعاً يطال المهاجرين والملوّنين واللاجئين. ولكن دينامية التراجع قد تشمل بعد قليل فئات أوسع، بما فيها الإثنية السائدة. وهذا جزء من أجندة النضال في الفترة المقبلة، فنحن نواكب أزمنة مفصلية على المستوى العالمي، تجعلني أكاد أقول أنّنا في حاجة إلى أفق اشتراكي جديد، وإن بدلالة مختلفة لفكرة الاشتراكية. والدلالة التي أفضّل أن تُعطَى للاشتراكية اليوم هي الانفتاح على الغائب: المهاجر، اللاّجئ، النساء، المقهورين، المهمّشين، وعلى البيئة لأن لدينا مشكلة عالمية تتمثل في مشكلة البيئة الحية. هذا كله مُغيّب. الديمقراطية اليوم تَقوم على حوار ثنائي بين “أنا” و”أنت”؛ أما الثالث، “هو” و”هي” و”هم” و”هن”، للعاقل وغير العاقل، ليسوا موجودين، غائبين. الاشتراكية هي حضور الغائبين. واليوم نشاهد تراجعاً حتى عن الحوار بين أنا وأنت، وفي ألمانيا حيث أقيم حالياً، عوضا عن الحوار (Dialogue) يسود المونولوغ (Monologue) بخصوص غزة، وهو نوع من العقيدة الرسمية وفرض الرقابة التي تقارب محاكم التفتيش، حيث يُمكن أن يُسأَل كل فرد؛ هل تدعم إسرائيل؟ وهذا إن حصل فهو سيضع ألمانيا بأقرب موقع إلى التوتاليتارية منذ سقوط النازية. فعوض أن تُحلّ أزمة الحوار باتجاه تعددي يستوعب الغائب، نرى أنها تحل في اتّجاه العودة للعقيدة الرسمية، أي في اتّجاه “المونولوغ” والصوت الواحد. قبل ستين عاماً، وُجدَت في فرنسا حركة يسارية بقيادة كورنيليوس كاستوريادس، باسم الاشتراكية أو البربرية، وهو اسم مجلة الحركة كذلك، تيمّنا بشعار كانت طرحته روزا لوكمسبورغ قبل اغتيالها عام 1919. اليوم يبدو لي وجيهاً طرح شعار يقول الاشتراكية أو التوتاليتارية. تعدّد الأصوات وإلا فالصوت الواحد والعقيدة الرسمية.
الديمقراطية هي المسرح الذي يَحضر فيه الغائبون. لكن من أيام أثينا في الزمن الكلاسيكي استَبعدَت الديمقراطية الأثينية النساء والأجانب والعبيد. الفئات الأشد فقراً وتهميشًا هم في حكم عبيد الأمس، وليس الطبقة العالمة بالمعنى الكلاسيكي الواسع. والنساء لا يزلنَ بوضع المُغيّبات بدرجات متفاوتة، في مجتمعاتنا أكثر من مجتمعات الغرب. والأجانب اليوم هم المهاجرون واللاجئون. يُضاف إليهم غائب رابع هو البيئة التي تُشكّل الإطار الحي للحياة. لذلك أريد أن أفكّر في الاشتراكية من خلال هذا الاتجاه، الذي بإمكانه أن يكون منشّطاً للخيال السياسي، لأننا نفتقد إلى نوع من الطّوبَى والصور المُحفّزة للتفكير السياسي الجديد. والديمقراطية لا تحمي الحقوق إلا بقدر ما توجد دينامية لتجاوز الديمقراطية ذاتها، وإذا لم توجد هذه الدينامية تجنح الديمقراطية لأن تصير شكلية ومُفرغة كحالها اليوم. ما يُنقذ الديمقراطية هو شيء يتجاوزها. لذلك من المهمّ بناء تقاليد نضالية جديدة، لأن هناك أزمة خيال مثلما قال كثيرون، بينهم علاء عبد الفتاح، سجين نظام السيسي طوال معظم السنوات العشرة الماضية. لقد افتقرنا بالفعل إلى الإبداعية الفكرية والتنظيمية في العقود الأخيرة. وفي أوساط اليسار وغيره سيطرت الحساسية الليبرالية، والفردانية جداً، والمشتتة والمنفصلة عن قوى اجتماعية حية، والتي تنزع لأن تعرف نفسها بالضدّ لأنها لا تملك شيئاً إيجابياً تعرف نفسها به.
أعتقد أنه بهذا الاتجاه يُمكن أن تُحمَى فكرة حقوق الإنسان عبر تجاوزها نحو الحق في الحقوق، كشيء غير مرتبط بالدولة الأمة، وإنما كشيء مرتبط بفكرة النضال لتجاوز الأوضاع الحالية في العالم.
المفكرة: على الصعيد العربي، لطالما تم تأجيل المطلب الديمقراطي باسم أولوية الاشتراكية أحياناً أو توفير الخبز قبل الحرية، برأيك كيف نقرأ هذا الجدل بخاصة في ظل حالة التراجع الديمقراطي والاجتماعي في أكثر من بلد عربي؟
الحاج صالح: اسمَح لي بالعودة قليلا إلى مساري الشخصي. أنا كُنت شيوعياً معارضاً للنظام السوري على أرضيّة ديمقراطية، في واحد من أوّل الأحزاب الشيوعيّة العربية التي أعادت الاعتبار لقضيّة الديمقراطيّة، بالاستفادة من كتابات ياسين الحافظ (1930-1978)، المفكر السوري الذي تُوفي شابّاً قبل نهاية السبعينات. في ذلك الوقت، كانت الفكرة الديمقراطية ذات بُعد مناقض لاتجاه “اشتراكيّة الأمر الواقع” القائمة في الاتحاد السوفياتي وأوروبا الشرقيّة، والتي بدأت في التخثّر على الأقلّ منذ ستينات القرن العشرين. هذه الاشتراكية كانت أحادية الصوت، ليس فيها ثنائية مثل الديمقرطية، ولا تعدّدية بطبيعة الحال. ولكن ما أُهدر في تجربة الحركات الديمقراطية ذات الأصول اليسارية في المجال العربي هي الفكرة التي تحدثت عنها سابقاً، ومفادها أنّ الديمقراطية تكون بخير كلّما كانت هناك دينامية لتجاوزها. في المجال العربي، أعتقد أنّه من المهمّ أن ينفتح تفكير الديمقراطيّين، وأتحدث أيضاً عن نفسي بقدر من النقد الذاتي، على ما يتّصل أكثر بمطالب الشعب الحياتية، بامتلاك الناس لحياتهم، وعلى أفق نسوي يخترق الأسرة والمجتمع، وأفق ثالث بيئي. نحتاج ذلك من دون شكّ إلى المزيد من التفاصيل والإكساء، ولكن هذا هو الأفق الاشتراكي الذي أتحدّث عنه. أظنّ أنّ تناولنا لفكرة الديمقراطية في الفترة الأخيرة استنفد طاقته كي يأتي بجديد. ربما لسنا نحن، الذين كنا شيوعيّين وأصبحنا ديمقراطيّين بعد ذلك، وأسمي جيلي “جيل الاستدراك”، مؤهّلين لذلك. أعتقد أننا فعلنا الشيء الصحيح في سنوات شبابنا، لكن هل لا يزال ذلك هو الشيء الصحيح اليوم؟
لا أعتقد أنّ الديمقراطيّة كما تُطرح حاليا تُخاطب شرائح واسعة، إذا لم تُفتح على شيء يتجاوز باتجاه امتلاك الحياة، أو إن شئنا بلغة ماركسية تقليديّة، ما يتصل بعلاقات الإنتاج وتوزيع الثروة. إذا استمرّينا في الحديث عن الديمقراطية بالمعنى الليبرالي، وهو حديث مثقفين من الطبقة الوسطى، فلن ننجح في إرسائها، خصوصا وأنّ الديمقراطية الليبرالية في أزمة. حان الوقت لتجاوز السؤال حول توطين الديمقراطية، وما إذا كانت لدينا تقاليد ديمقراطية. على العكس من ذلك، ما دَامت الديمقراطيّة في أزمة، فنحن نظرياً في موقع يؤهّلنا للمساهمة في الخروج من هذه الأزمة باتجاه أفق اشتراكي. ولا أقصد بذلك التجربة التاريخية الاشتراكيّة. فما حصل في هذه التجربة كان التضحية بالديمقراطيّة، أو النكوص إلى الصوت الواحد بدل السير قدماً نحو تعدد الأصوات. إذ لم تَعد الاشتراكيّة تجاوزاً ثلاثي الأبعاد للديمقراطيّة ثنائيّة الأبعاد التي تجاوزت بدورها الليبراليّة أحاديّة البعد، وإنما على العكس، تحوّلت الاشتراكيّة إلى البعد الواحد والصوت الواحد، حيث فُرضَت كعقيدة رسميّة. ما أحاول قوله، هو أنّ ما يحمي الديمقراطيّة هو شيء يَتجاوزها، ينفتح على الغائب أو المغيّب. والغياب مصنوع سياسياً بعلاقات السلطة والثروة والمعرفة.
يجب أيضا أن نقطَع مع هذا الابتزاز المُخادع بين الخبز والحرية. فالانشغال الحصري بالخبز لا يضحّي فقط بالحرية سلفاً، وإنما بالخبز أيضاً. هناك نظريات مهمّة، مثل أعمال أمارتيا سين، حول أنّ التنمية حريّة. وهذا ما أقصده بتملّك الناس لحياتهم؛ من الحياة المادّية إلى الحياة السياسيّة العامّة. وواضح جداً أن مجاعة الغزيين اليوم، ووقوع ما يفوق 90% من السوريين تحت خط الفقر بحسب أرقام الأمم المتحدة، أن الجوع مصنوع سياسياً، في صلة وثيقة تنظم الإبادة السياسية (بوليتيسايد) والقتل الجماعي على الهوية (جينوسايد) في البلدين المنكوبين. لا ننسى أنّ الحكم الأسدي رفع شعار الجوع أو الركوع أثناء حصاره لمناطق متعددة في البلد بين 2013 و2018. ما يضمن الخبز هو حصراً ما يتجاوزه إلى الحرية، وهو ألاّ يعامل المواطنون كأدوات. من يُضحّي بالحرية من أجل الخبز سيَخسرهما معًا. وما يحمِيهما معًا هو أفق لتجاوزهما، بشرط أن يكون أفقًا ديناميّا وغير مفروض من فوق.
المفكرة: أنت حاليا مُقيم بألمانيا. كيف واكبتَ ردود فعل السلطات الألمانية وجزء من النخب إزاء ما حصل من عدوان على غزة؟
الحاج صالح: بعد أسبوع فقط من بداية الحرب على غزّة، سافرت وقضيّت شهرًا خارج ألمانيا. لذلك لم أعشْ مباشرة أسوَأ فترات الاعتداء على المظاهرات المناصرة لفلسطين واستهداف الكوفيّة والعلم الفلسطيني. يبدو لي أنّ ألمانيا اليوم أقرب إلى التوتاليتاريّة من أيّ وقت مضى منذ التجربة النازية. مع احترامي للبلد والثقافة والمجتمع وثرائه التاريخي، لا يمكن أن نُنكر أنّ بعض أوجه هذا التاريخ كانت شديدة الإجراميّة، وأهمّها النازية والحرب العالميّة الثانية. وفي الحقيقة قبل ذلك أيضا في ناميبيا، حيث حصلت أوّل إبادة في القرن العشرين. بعد الحرب العالميّة الثانية والهولوكوست، تَمركَز الوعي الذاتي الألماني حول التكفير عن هذه الجريمة، مع شعور بمسؤوليّة خاصّة تجاه اليهود. في حدّ ذاته هذا شيء إيجابي ومفهوم. ولكن الإشكال هو أنّ فكرة “never again” أو “لن يحصل مثل ذلك مجدداً”، يحمل تأويلا ضيّقا يقول بأنه “لن يحصل ذلك مجدداً فقط تجاه اليهود”، فكأنما لا بأس أن يحدث ما يقاربه لغيرهم. لكن صار يصر بعنف على أنه لا يمكن حدوث ما يقارب الهولوكوست. أصبحت كلّ مقارنة للهولوكوست مع إبادات أخرى تُعتبر تنسيباً لإبادة اليهود أو حتى تتفيهًا لها. يمكن فهم ذلك بالعُقدة المرضيّة التي سبّبتها جريمة الإبادة الرهيبة التي ارتكبها النازيون، والتي شملت، إلى جانب اليهود، الغجر والمعوّقين والمثليين جنسيا. ما لا يُفهم، هو تحويل هذه العقدة المرضيّة إلى معيار عالمي للسّواء. ما يتّصل بعقدة جَمْعية لشعب في علاقة بجانب شديد السوء في تاريخه لا يُمكن أن يُعمّم على الآخرين. فقط الشمولية يمكن أن تطلب من فلسطيني أو سوري أو عربي أن يعترف بحقّ إسرائيل في الوجود ودعمِها. نحن ليس لدينا هذه الذاكرة ولم نشارك في هذه الجريمة، ومعنى إسرائيل فيما يخصنا هو الاستعمار والعنصرية والتطهير العرقي، وليس النجاة الأمان “وقلعة الغرب”، مثلما قد يكون في نظر الألمان. نحن ضحايا إسرائيل. ليس فقط الفلسطينيّين بل السوريّون تأثروا أيضاً. وحتى إذا سلّمنا بالمنطق الوطني الغبيّ الذي يقول أنّ فلسطين لا تعنينا كسوريّين، فإن إسرائيل تحتلّ أيضا أرضًا سوريّة. فكيف تريدونني أن أعترف بإسرائيل؟ هذا حتى لو وضعنا بين قوسين الانحيازات القيمية والأخلاقية وما يتصل باعتبارات العدالة، وكلها تضع المرء في صفّ فلسطين وضد إسرائيل.
وأتصور أن مركزة الوعي الألماني حول الهولوكوست ليس تعبيرا عن غيريّة بقدر ما يعبّر عن نرجسيّة. أكاد أقول أنّ المسألة ليست حتى حول اليهود، بقدر ما تتعلّق بأن يُعطي الألمان أنفسهم شعورا طيّباً، بحثاً عن اكتفاء ذاتي نرجسي. شعار “ألمانيا فوق الجميع” يعود، لكن بطريقة أخرى. تفكير الألمان يبقى حول أنفسهم، الفرق هو أنّه موجّه إلى آثام وذنوب الماضي. ألمانيا لم تخرج بعد من نرجسيّتها نحو غيريّة مُعَافاة وحقيقيّة فيما أرى.

A Conversation with Yassin al-Haj Saleh: Palestinianizing the Ruled and Israelizing the Rulers

Yassin Al-Haj Saleh

Translated from Arabic by Rana Issa

In this interview with the Syrian intellectual living in Berlin, Yassin al-Haj Saleh claims that “We are all Palestinians to various degrees,” inviting us all to inviting us to recognize how our devaluation as political subjects is produced by the same systems of exploitation and violence currently destroying Gaza and murdering its population.. The dispossession that structures the Palestinian experience is present elsewhere, especially in regimes that claim to be sworn enemies of Israel. Pointing towards this shared experience, al-Haj Saleh proposes a way forward by challenging as well as defending democracy as a crucial political concept that can lead us to a new socialist horizon. Speaking to an Arab audience, he argues that to wrench out democracy from the fortresses of our Western enemies must not preclude engaging in solidarity work with Western allies. Essentializing identities dangerously prevents our struggle from forging a new horizon for democracy that can overcome its current limits.

While working on translating this interview, which was originally published in The Legal Agenda, I had to pause and reconsider the question of democracy and the discourse of human rights, particularly as it is practiced through development economics and the NGO industry. Al-Haj Saleh does not problematize this discourse, as per his mention of the work of economist Amartya Sen, whose yoking of freedom to development economics has contributed to legitimizing the work of NGOs globally. In the case of Palestine, development economics was deployed by complicit Western states to lull Palestinian society– particularly in the West Bank– to the Oslo Accords’ promises, while Israel relentlessly confiscated land, demolished homes, jailed, and massacred Palestinians. NGO and Human Rights work in Palestine has been a mixed bag. On the one hand, it has produced a clientelistic society that shapes its civil programs to the whims of donors while also providing independent eyewitness reports of Israeli crimes against Palestinians. Take UNRWA. While Palestinians must patiently wait for UNRWA handouts for food, medicine, education, and jobs, this war has shown the precarity even of such a system of subsistence that depends on charity disguised as development. Nevertheless, UNRWA has also generated important eyewitness reports and statistics that document the Israeli crimes against Palestinians. In the interview, al-Haj Saleh does not delve into how the yoking of development to freedom, as a practice, has been complicated everywhere, but especially so in Palestine. This lack of nuance in the interview risks distracting the reader from the crucial suggestion al-Haj Saleh is making about democracy. He argues for what we are witnessing today on college campuses everywhere: what safeguards democracy is the struggle to transgress it. He rejects the democracy of the ballot box, and the dissenting masses know that this democracy of ballot boxes is no longer for us. The street is our democracy, and the international struggle, like charity, begins at home. Only when our democracies can expand to include those it absents can the ballot box be rehabilitated. Today, what we have is each other and an inclusivist Palestinian solidarity movement that would do good to carry the slogan “We are all Palestinians,” more or less, not so much as a rallying call to flatten difference but as an exploration of how our own political realities are complicit in the vicious genocide in Gaza. Aspects of Palestinian dispossession are, to various degrees, globally replicated, and the struggle for Palestine in the collective labor of liberation centers the injustice of dispossession and demystifies the workings of a colonizing world system that creates wealth through politicide.

Legal Agenda: The genocide we are witnessing today and the ongoing siege imposed on the Palestinian people makes us confront a destructive force that seeks to be a model for managing the region and the world, eliminating all political and legal possibilities for change. How do you read this destructive force?

Yassin Al-Haj Saleh: Israel has always been the paradigm for politicide in our region. The concept of politicide means mass killing for political reasons (for example, the Indonesian Communist Party in 1966) or the political killing of a group, its political decapitation, so to speak, though without necessarily murdering many of its members, but with keeping the possibility of genocide. The Palestinian people are in this situation. Israel is at its best with the spread of this model, and when more of the region’s regimes are based on politicide, as has been happening in Syria, where we find two facets in the extermination relationship: the Palestinization of the Syrians and the Israelization of the regime. The matter goes beyond Syria, as most Arab regimes, to varying degrees, have reproduced the Israeli condition locally.

What is happening today is a terrifying jump in demolition and politicide of the Palestinian people, spilling over from Gaza to the occupied West Bank, even if not with the same dramatic degree of destruction, killing, and impetuousness. This destruction is persistent and systematic, decimating Palestinians through settlement, destruction of homes, making life unlivable, and through direct murder. What seems to me relatively new today is the obscene vulgarity of Israel’s allies and protectors in their support of it, something that reminds us of the heyday of Western colonialism, when racist and civilizational theories gave legitimacy to expansion, and peoples were classified into white peoples with rights to control the world and other enslaved people whose resources were plundered in various forms. This is being repeated today in Palestine through (the unbelievably brazen) bias on the part of Western powers, their total embrace of Israel, and a prevailing feeling that theirs is a common battle.

There is something akin to “national unity” in the West around Israel, where no voice is louder than Israel’s battle against Gaza—which has been besieged since 2006—and “Israel’s right to defend itself.” I believe that this framing sends a message to the Palestinians first and to Arabs generally that this is the future that is intended for the inhabitants of the region. The battle of Palestine is, therefore, broader than Palestine, as it constitutes the model that creates possibilities for those who build their regimes around politiciding their peoples, like the Assad regime in Syria that produced genocidal possibilities for other Arab regimes and for Israel itself. An Israeli official even asked: Why are the Palestinians not deported to Egypt, as millions of Syrians were previously displaced to Turkey?

It has become possible to transform human beings into violated subjects, a model that Giorgio Agamben described through the concept of the “homo sacer,” a form of life outside the law, reduced to the biological dimension. Killing a homo sacer does not constitute a crime, and her life has no moral or sacrificial value. She cannot be a martyr, and her death has no sacrificial value. Today, this is practiced on a collective scale in Palestine, and it has been practiced on a large scale in Syria, and in some way, it is the model adopted in Egypt. We have a brutal model that combines fascism with traditional colonialism. This model is being reproduced in our region everywhere, and it bodes more violation and obliteration.

LA: Despite the reproduction of the Israeli model by more than one Arab regime, to this day, we still see Arab regimes adopting a discourse that defends the Palestinian cause and aligns with the so-called axis of resistance or “mumana’a.” What is your take on this?

YAS: We must distinguish between structural and discursive facts. At the structural level, there is a propagation of the politicide model by treating the population as superfluous and dispensable. This is apparent in Syria and, to some degree, in Egypt. However, the level of atrocity was mainly achieved in Syria and Palestine. Through this structural model, we can talk about a Palestinianization of the ruled and an Israelization of the rulers on a large scale. We are all Palestinians to various degrees. Look at how seven million Syrians, about 30% of the population, are displaced and have become refugees in countries near and far in an ongoing Palestinian scene. Isn’t this another nakba? These structural facts are more important than the discursive facts that are used for the sake of mobilization and building legitimacy. When the Assad regime in Syria, or the so-called axis-of-resistance regimes, speak about Palestine, this is a fact of discourse or ideology, while the reality of the situation belies what the speaker is saying. The reality is that you deal with your governed (your people) as dispensable: they are arrested, tortured, raped, killed, bombed, exterminated, and displaced. Legitimation tools are less important here since these regimes instrumentalize a popular and resourceful cause, but this instrumentalization is in constant contradiction with the structural situation. As we can see, Gaza has been abandoned for more than five months now. As we also see, the champions of normalization with Israel, the UAE, and Saudi Arabia are themselves the champions of normalization with the rule of the Assad family.

LA: In addition to the Arab regimes, hegemonic Western powers are experiencing a great contradiction between practice and discourse, which has made descriptions of the West as arrogant and hypocritical more acceptable than ever before. These descriptions also express a mounting sense of the end of major values, notably democracy. Does this trend paint a true picture of what is going on?

YAS: I believe that here, too, we need to distinguish between structural and discursive facts. The Western countries have never been democratizing forces in our region. There is an instrumental use by the West of the universally accepted and positively perceived discourse of democracy and human rights in ways similar to how the Palestine cause is used by the “axis of resistance.” But because the idea of democracy is important and is actually a gain for the people, it is better for enemies like us not to have it. The actual structure, as it appears in Gaza, is a very crude colonial setup. This time, even the discursive level has been insolent and lacking in diplomacy. It is difficult for our memory to forget the votes of Western parliaments against the ceasefire in Gaza and the American use of veto power against the ceasefire.

This observation is important in our struggle for democracy and against renewed forms of international domination. The struggle for democracy does not put us in the same trench with the Americans or the Europeans, but rather the opposite. Democracy, if we can win it, is like “war booty,” as Kateb Yacine once said about the French language in which he was writing. The West seems aware of this and prefers for us authoritarian or even genocidal regimes.

At the same time, we must oppose nihilistic forms of hostility toward the West that Islamists and Arab nationalists prefer. One of the main traps we must avoid today - while we are emotional and angry - is thinking in terms of “us” and “them” or thinking tribally about the conflict. It is true that our worst enemies are in the West, but our best friends are also there, including Western citizens, activists, and intellectuals in various countries. Therefore, it is important that we avoid essentialist traps that consider Americans and Europeans evil only because they are Americans or Europeans. This hostility is similar in structure to Islamophobia and Arabophobia, which deals with us as a homogeneous human mass, as a person-collective who is hated and discriminated against. It is important that we look for partners to work with, and there are many of them. The global situation is more complex than ever before, to the point that a few weeks ago, a global strike for Gaza was called for in more than one region in the world, and this idea was unimaginable until recently. Today, through global information circulation, it is possible to call for a global strike. Regardless of its success, the call has reached billions of people in various forms. In this world, we cannot think in tribal terms, and we must have partnerships within which we can work for the sake of a different world based on fraternity, equality, partnership, and respect.

As for democracy, I see it going through a crisis everywhere in the world. I do fear the possibility that democracy may collapse in the West itself, just as Soviet socialism collapsed decades ago from within. The enemy of democracy is the rising right-wing populist movements in the West, which in recent years have become closer to the mainstream of the political scene after being on its distant margins. Western political elites today act without the sense of social responsibility that existed during Soviet socialism and its derivatives. On the contrary, it adopts elements of the right's anti-refugee and anti-immigrant programs to win elections. Politics becomes elections. The entire political scene shifts to the right. Without making a misguided prediction, it seems to me that the dynamics at work today may lead to the collapse of democracy or its failure to defend itself against the ongoing process of erosion to which it is subjected. For this reason, too, we need to work with partners for broader democratization in our countries and in the world and to stand up to anti-democratic trends.

LA: Considering the global crisis that democracy is going through, what are the features that appear before us if we try to imagine the fate of the world in the near future?

YAS: It seems to me that the state of the world today is one of no alternative. There is no alternative or TINA, as Margaret Thatcher called it forty years ago. This means that the only alternative to the liberal democratic form that prevails in Western countries–which is eroding today– is this form itself, which is a form that the likes of Biden and Trump are following in succession in America. The extreme right, or what was considered the extreme right ten years ago, is becoming more and more acceptable today. We have Marine Le Pen in France and perhaps tomorrow the Alternative for Germany (AFD) party, and before that, the rise of the extreme right in Hungary, and recently, a super-right-wing president was elected in Argentina, and perhaps Trump will be back in America. This is what the current mechanisms of liberal democracy promise in light of the weakness of leftist alternatives. In our country, we are told explicitly that there is no alternative, and the only alternative to Assad rule is this neo-Sultanic hereditary rule itself, which publicly declares that it will keep power eternally and raises nihilistic slogans of the type of Assad or no one, or Assad or we burn the country. Eternity is not a gregarious continuity, nor is it a pleasant stability. Rather, it is a perpetual war against the future with the aim of eliminating any potential alternatives or nipping them in the bud. For this reason, I believe that the condition of a global no-alternative is “syrreal,” a global generalization of the Syrian eternity, which is the largest social, cultural, and political regression in the history of Syria since the Ottoman Tanzimat era, a return to an extremely ferocious neo sultanism. Rather than Syria evolving towards a more open world, the world has become more like Syria in the last ten years or more. This puts us before a great challenge: the challenge of coming up with alternatives, creating a new language, building new networks of interaction, and new solidarities. We are in a crisis for this reason, a global crisis, and the crisis of the left and democrats are parts of it.

LA: Considering the suffocated alternatives that threaten major ideas such as democracy and human rights, what transgressive horizon is possible for thought?

YAS: The idea of human rights does not carry traction outside the political frameworks of modern societies, and the basic dominant framework here is the nation-state. I agree with Hannah Arendt's criticism of the idea of human rights, which is about a right to rights contingent on the existence of a political group rather than the abstract individual. But even the existence of a political community such as the nation-state does not guarantee that it is a framework for the right to rights except in some countries, as we know well in our countries. Even in liberal democratic countries, rights are decreasing for immigrants, people of color, and refugees. But the dynamic of decline may soon include broader groups, including parts of the dominant ethnic group (the poorest, the dissidents…). This is part of the agenda for the struggle in the coming period—as we are witnessing pivotal times at the global level—which makes me almost say that we need a new socialist horizon, albeit a socialism with different connotations.

The meaning that I prefer for socialism today is openness to the absented: the immigrant, the refugee, women, the oppressed, the marginalized, and to the environment because we have a global problem of the living environment. All of this is absented. Democracy today is based on a bilateral dialogue between “I” and “You.” The third, “he,” “she,” “they,” the human as well as non-rational others, are not present; they are absented. Socialism is about the presence of the absented. Today, we are witnessing a decline even in the dialogue between you and me, and in Germany, where I currently reside, instead of dialogue, there is monologue regarding Gaza, a kind of official doctrine and imposition of censorship that verges on the Inquisition, where everyone can be asked, Do you support Israel? If this happens, it will put Germany closest to totalitarianism since the fall of Nazism. Instead of the crisis of dialogue being resolved in the direction of pluralism that accommodates the absented, we see that it is being resolved in the direction of a return to the official doctrine, that is, in the direction of the “monologue” and the single voice. Sixty years ago, there was a left-wing movement in France led by Cornelius Castoriadis under the banner of socialism or barbarism, which is the name of the movement’s magazine as well, after a slogan that Rosa Luxemburg put forward before her assassination in 1919. Today, it seems valid to me to put forward a slogan that says socialism or totalitarianism. Multiple voices or the one voice and the official doctrine.

Democracy is healthy only when it is the theater in which the absented can show up, present, and represent themselves. But from the days of Athenian antiquity, Athenian democracy excluded women, foreigners, and slaves. The poorest and most marginalized groups today are the slaves of yesterday, not the working class in the broad classical sense. Women are still in the position absence, under-present, and underrepresented—in our societies more than in Western societies. Foreigners today are immigrants and refugees. Added to them is a fourth absented, which is the environment that constitutes the living framework of life. I want to think about socialism by pursuing these directions, for how they stimulate the political imagination because we lack a utopian vision and images that provoke new political thinking. Democracy only protects rights to the extent that there exists a dynamic of transcending democracy itself. If this dynamism does not exist, democracy tends to become formal and empty, as it is today. What saves democracy is what goes beyond it. Therefore, it is important to build new traditions of struggle because there is a crisis of imagination, as many have said, including Alaa Abdel Fattah, a prisoner of the Sisi regime for most of the past ten years. We have indeed lacked intellectual and organizational creativity in recent decades. Among the left and elsewhere, liberal sensibility prevailed: very individualistic, dispersed, and separated from living social forces, defining itself by what it stands against because it had nothing positive to define itself with.

I believe that in this direction, the idea of human rights can be protected by moving beyond it towards the right to rights, as something not linked to the nation-state but rather as something linked to the struggle to overcome the current conditions in the world.

LA: On the Arab level, the democratic demand has often been postponed in the name of the priority of socialism or providing bread before freedom. In your opinion, how do we read this discourse, especially in light of the state of democratic and social decline in more than one Arab country?

YAS: Allow me to return a little to my personal path. I was a communist opposed to the Syrian regime on democratic grounds, in one of the first Arab communist parties that recognized the issue of democracy by benefiting from the writings of Yassin al-Hafez (1930-1978), the Syrian thinker, who died young before the end of the seventies. At that time, the democratic idea had a dimension contrary to “de facto socialism” existing in the Soviet Union and Eastern Europe, which had begun to stagnate at least since the 1960s. This socialism was univocal, without dualism like democracy, and certainly without pluralism. What was wasted in the experience of democratic movements with leftist origins in the Arab sphere is the idea I mentioned previously, basically that democracy is fine whenever there is a dynamism to carry it further. In the Arab sphere, I think it is important for democratic forces, and I include myself with a degree of self-criticism, to open their thought on how we relate to peoples’ life needs, to how people can own their lives, and with a feminist horizon that pervades family and society, and a third environmental horizon. We undoubtedly have to flesh this out, but this is the socialist horizon I am talking about. I think that our approach to the idea of democracy in recent times has exhausted its energy to bring something new. Perhaps we, who were communists and later became democrats, are not qualified for this. I think we did the right thing in our younger years, but is it still the right thing today?

I do not believe that democracy, as it is currently proposed, addresses broad segments if it does not open towards a transgression that takes the direction of owning life, or to put it in traditional Marxist language, what is related to the relations of production and distribution of wealth. If we continue to think of democracy in the liberal sense, which is the position of middle-class intellectuals, we will not succeed in establishing it, especially since liberal democracy is in crisis. It is time to move beyond the question of the localization of democracy and whether we have democratic traditions. On the contrary, as long as democracy is in crisis, we are theoretically in a position that qualifies us to contribute to getting out of this crisis towards a socialist horizon. By this, it should be now clear, I do not mean the socialist historical experience. What happened in that experiment was a sacrifice of democracy or a retreat to one voice instead of moving forward toward a plurality of voices. Socialism is no longer a three-dimensional transcendence of two-dimensional democracy, which in turn has transcended individualist one-dimensional liberalism. Rather, on the contrary, socialism became monodirectional, with one voice, and it was imposed as an official doctrine. Again, what protects democracy is something that goes beyond it, that opens up to the absent or the absented. Absence is always politically constructed through relationships of power, wealth, and knowledge.

We must also break with this deceptive blackmail between bread and freedom. Exclusive preoccupation with bread sacrifices not only freedom in advance, but also bread. There are important theories, such as the work of Amartya Sen, that development is freedom. This is what I mean by people taking ownership of their lives: material life as well as public political life. The starvation of Gazans today, and that more than 90% of Syrians have fallen below the poverty line according to United Nations figures makes clear that hunger is politically manufactured and is closely tied to the administration of genocide and politicide in the two afflicted countries. We do not forget that the Assad regime raised the slogan: hunger or kneeling during its siege of multiple areas of the country between 2013 and 2018. What guarantees bread is exclusively what goes beyond it towards freedom, which is that citizens should not be treated as tools. Whoever sacrifices freedom for bread will lose both. What protects them both is a horizon to overcome them, provided that it is a dynamic horizon and not imposed from above.

LA: You are currently residing in Germany. How did you keep up with the reactions of the German authorities and part of the elite to the aggression against Gaza?

YAS: Only a week after the start of the war on Gaza, I traveled and spent a month outside Germany. Therefore, I did not directly experience the worst periods of attacks on pro-Palestinian demonstrations and the targeting of the kuffiyeh and the Palestinian flag. It seems to me that Germany today is closer to totalitarianism than at any time since the Nazi period. Despite my respect for the country, its culture and society, and its historical richness, we cannot deny that some aspects of this history were extremely criminal, most notably Nazism and World War II. Even before that, there was Namibia, where the first genocide occurred in the twentieth century. After World War II and the Holocaust, German self-consciousness centered on atonement for this crime, with a feeling of special responsibility towards the Jews. This in itself is a positive and understandable thing. But the problem is that the idea of “never again” carries a narrow interpretation that says that “this will never happen again only to the Jews,” as if there is nothing wrong with something similar happening to others. They violently insist that nothing close to the Holocaust could happen. Every comparison of the Holocaust with other genocides has come to be seen as a relativization of the genocide of the Jews or even a trivialization of it. We can understand this logic as a manifestation of a pathological complex caused by the horrific genocide committed by the Nazis, which included, in addition to the Jews, gypsies, the disabled, and homosexuals. What belies understanding, however, is why this pathological complex is being transformed into a global standard of normality. The collective complex of a particular people in relation to a very bad aspect of their history cannot be generalized and imposed on others. Only totalitarianism can demand that a Palestinian, Syrian, or Arab recognize Israel and support it. We do not have their memory, and we did not participate in their crime, and the meaning of Israel, as far as we are concerned, is colonialism, racism, and ethnic cleansing, not survival and a “fortress of the West,” as it may be in the eyes of Germans. We are victims of Israel. Not only the Palestinians but the Syrians were also greatly affected. Even if we accept the stupid nationalist logic that says that Palestine does not concern us as Syrians, Israel also occupies Syrian land. How do you want me to recognize Israel and bracket the question of values and moral inclinations and questions of justice, all of which put one on the side of Palestine and against Israel?

I now believe that centering German awareness around the Holocaust is not an expression of alterity as much as it is an expression of narcissism. I would almost say that the issue is not even about the Jews, as much as it is about the Germans making themselves feel good in search of narcissistic self-sufficiency. The slogan “Germany above all” is back but in a different way. In my view, Germany has not yet emerged from its narcissism towards a healthy and genuine alterity.

[1] Translator's note: This interview was published before the student protests, but it was written in their spirit and in the spirit of months of overwhelming international solidarity and state repression.