ستذهب أنت أيضاً
فاطمة الزهراء الرغيوي
لاحقاً وأنا في البيت، أستعد للنوم، تَعْرِف في تلك اللحظات التي تراجع فيها رغماً عنك تفاصيل يومك، في تلك اللحظة تذكرت أن اليد التي سلّضم بها عليّ السيّد المهّم، كنتُ قد رأيته قبل ذلك يولج سبابتها في أنفه.
كنت كما أخبرتك أنتظر النوم مستلقية في سريري الفردي فنحن لم نتزوج بعد. أنت لا تجد وظيفة. أنا لا تكفيني أجرتي لشخصين – أنا وأنت- لذا أعيل بها أبي وأمي وأخويّ الصغيرين. كنتُ إذاً في السرير، أخبرتك عنه؛ فراش قديم نام عليه عمّي قبل زواجه وانتقاله، ثم نامت عليه أختي قبل زواجها وانتقالها. أنا أنام هنا منذ عشر سنوات. أحببت قبلك اثنين. الأول كان يلهو بي في انتظار التوبة التي أنعم الله عليه بها بعد حادث كان سيقضي فيه. تزوج بعدها بابنة عمّته البكر. الثاني، كان يلهو بي في انتظار قارب ينقله إلى أوروبا. أتى القارب ورحل وانقطعت أخباره. أخته التي تعمل معي في معمل الخياطة، أخبرتني أنهم وجدوه في شاطئ الضفة الأخرى، وجدته فتاة شقراء كانت تلبس البكيني. كان جسده قد اكتسب لونا رماديا، لا تغطيه إلا بعض رقع الثياب. لو أنه علم أن تلك الشقراء قد تنازلت وأنزلت لأجل ذكراه، دمعتين، لانتابته حالة الفرح الشديد، ألم يكن يحلم بحبيبة شقراء !
المهم، كنت في السرير، قد نزعت عن وجهي مساحيق التجميل. أعرف أنك تحب الكحل في عيني. مدير المعمل يحب أحمر الشفتين، أنا أخفي آثار الزمن… كنت قد غسلت وجهي وبالتالي غسلت يدي، حتى إنني كنت قد أعددت وجبة العشاء وأكلت، ثم غسلت الأواني و… فكرت بالنوم.
إنها حتماً فكرة سيئة أن تفكر بالنوم، لأن أفكاراً أخرى ستزحف إليك. تصعد على السرير القديم. تتسلل تحت الغطاء الذي رفعته على رأسك. تمشي على وجهك فلا تقاوم رغبة حك خدك بيدك اليمنى. ثم تفتح عينيك… حينها فقط، تتذكر يدك في يده.
طبعاً أنت لن تتذكر. ربما لن تنتبه لأمر الإصبع الذي في الأنف. ربما ستنشغل فقط بوعد الرجل أن يجد لك وظيفة أسهل وبراتب أكبر. أعترف. نعم، أنا مثلك، فكرت فقط في الوظيفة الجديدة. استيقظت تماماً، ذهبت إلى بيت الماء، أمام المرآة القديمة، غسلت يدي مراراً وتكراراً. غسلتها بالجافيل، تعرف إنه يطهّر كل شيء. قلت لي ذلك عندما انهمر ماؤك داخلي لأنك نسيت أن تنسحب في الوقت المناسب. لم أشأ أن ننام سوية. تعرف، أحببت قبلك اثنين آخرين. عندما سلمتهما نفسي، أقصد جسدي، رحلا.
أنت لن تذهب. أنت تحبني، حلفت لي خلف سور المسجد. كنت متوجّهاً لصلاة الجمعة فصدقتك حتى عندما رأيتك تسدل لحيتك، وعندما طلبت مني أن لا أضع الكحل، وعندما رأيتك تضع يدك في يد سيّد مهمّ…
لا عليك، الحياة تحتمل هذه التقلبات، أقصد: هذا الفراق. أنت الآن في العراق. كان أستاذ الجغرافيا يعلمه لنا في الخريطة، هل تذكر؟ لم نكن مجتهدين. تعرف، كنتَ منشغلاً بالكرة وبالدراهم التي تتحصل عليها من حمل مشتريات المتسوقين في السوق المجاور للمدرسة، أنا كنت منشغلة بالخياطة. قالت لي أمي: الخياطة ستجعلك تأكلين وتشربين.
لم آكل ولم أشرب ولم أغتسل منذ يومين. قال لي المحقق (لم يقل طبعاً، أنت تعرف: لقد صرخ وعوى وأرعد. المحققون لا يقولون، لا يسألون):
— من أين تعرفين سعيد؟
— أنا لا أعرفه. أقصد آ سِيدِي، أعرفه. إنه أبُ ابني الذي يكبر بداخلي. لم ينفع الجافيل. هو لا يعرف ذلك. سافر قبل أن أعرف إنّي حامل.
— سألتك من أين تعرفينه؟ منذ متى؟
— ولكني لا أعرف آ سيدي. ولدنا معاً. ربما أرضعتني أمه. ربما أرضعته أمي. كان يحب سرقة دفاتري وأقلامي في المدرسة.
أحياناً كان يضربني عندما أتأخر في العودة إلى البيت. لا أعرف منذ متى أعرفه ومن أين. لقد عرفته دائماً مثلما أعرف نفسي.
أطلقوا سراحي البارحة يا سعيد. تعرف، اضطررت أن أخبرهم عن لقائنا الأخير- تذكره طبعاً - في الروضة، قلت لي إنني كافرة وعاهرة وأنك ستذهب إلى حيث تنتظرك الجنة. أعرف: هناك حور العين، هناك أنهر الخمر، هناك العنب والغلمان… أعرف، أعرف أنك تحب ابن جيراننا، الفتى ذا الشعر الذهبي والعينين الواسعتين. لكني لم أخبرهم كل شيء: لم أخبرهم عن سبابة المدير التي كانت في أنفه، عن يده التي مرّت على يدي، ثم بين ساقيّ. لا داعي لأن يعرفوا كل التفاصيل الآن… سأخبرك بها جميعها في الجنة. سنلتقي هناك، أليس كذلك !