أمي مثل أي امرأة سورية… أليس في بلاد العجائب
عبود سعيد
الحقيقة عادةً لا تظهر على الواجهة وهذا يعني أنها مفترضة دوماً وموجودة.
سأجرب أن أضعها هنا على الواجهة بأقصى ما استطعت إليه سبيلاً، على الرغم من أنها ستبدو زيفاً فقط لأنها أصبحت واضحة، الحقيقة قيمتها بعدم وضوحها.. بسريتها.. بافتراضها
غير مهّم…
الجندر السوري (للذكورة والأنوثة)
وضعت كلمة جندر على الغوغل، تقريباً اعتبرت أنني فهمت ما هو المقصود بهذه الكلمة، لكنني لن أقول لم أفهم، لعدم ثقتي بأن ما فهمته هو المطلوب.
حين تُذكر كلمة أنوثة أمامي أتذكر مخلوقاً واحداً على هذا الكون وهو أمي.
تساءلت قبل أن أكتب هذا المقال إذا كانت أمي تعتبر من الجندر أم لا، وإلى الآن لم أصل إلى نتيجة، لكنني قررت أن أدحشها وإن كانت غير موجودة فيه.
ترعرعت أمي في قرية على نهر الفرات من أب يعمل في تجارة (اللبابيد) وهو عبارة عن سجاد يشبه شكلاً تلك السجادات الرفيعة الطويلة الحمراء التي يمشي عليها المشاهير والشخصيات المهمة، لكنه هنا مصنوع من الصوف ويوضع في أوض شيوخ العشائر، طبعاً للعلم، إن أمي امرأة.
امرأة مميزة، كانوا يقولون عنها أنها تطبخ وتسهر مع زوجات عناصر المخفر. وجدّي كان غنياً لدرجة أنه كان يدخن (كينت). مرة قالت لي أمي «آني من لمن كنت صغيرة كل نسوان الجرية يغارن مني لأني أقعد مع نسوان الشرطة وأضيّفهن دخان (كينت) من باكيت أبوي».
وفجأة يظهر رجل عمره أربعون سنة ألا وهو أبي الذي سمع عن جدي (الغني) فتقرب منه وطلب القرب، ولأن أبي لم يكن يملك سوى عمتي فعرضها على جدي كمهر ثمين بحسب رأيه يقدم إلى خالي مقابل أن يتزوج أبي أمي!
الطيور تقع على أشكالها وهنا أقصد عمتي وخالي، فاضطر جدي إلى الموافقة ومن دون عرس ومن دون زفة وعلى أرض حيادية ألا وهي مضافة الشيخ حيث التقى العريسان بالعروسين، وأخذ كل منهما عروسه إلى داره، هكذا تزوجت أمي من هذا الرجل الذي هو أبي التي رأته للمرة الأولى بعد أن تزوجا.
علماً أن أمي كانت امرأة مميّزة في تلك الفترة.
لا ذكريات بينها وبين أبي إلا سيجارة في أول ليلة قضياها معاً، ومن بعدها قسوة بقسوة مع أنها تحبّه، تحبّه إلى درجة أنها عندما تريد أن تمدحه في غيابه تقول عنه «زلمة مثل صدام حسين». ترى فيه الحكيم القوي الجبار الذي لا يشق له غبار. الرجل الصعب في المرحلة الصعبة، تقصد مرحلتها. ترى فيه ستالين وبروسلي وغودو والمهدي والبرابرة. هي أيضاً كانت تنتظر، كانت تنتظر غودو والمهدي والبرابرة من أجل ابتسامة واحدة.
بعد عشرة أشهر من الزواج أنجبت منه الطفل الأول فالثاني والثالث والرابع فالخامس عشر بعد إناث وذكور الذي هو أنا.
خمسة عشر طفلاً كبروا وصاروا صبايا وشباباً، نساءً ورجالاً، وما بين العاقل والمجنون، الخجول والوقح، الفتاة الشاطرة والكسولة، الشب السرسري والملتزم، المثقف والأزعر، الحدّاد والكاتب، تعقّدت سماها، بينما أبي كان يتباهى بهذا الجيش القادر على إفساد أكبر مخطط وأكبر مؤامرة.
خمسة عشر طفلاً بلا هوادة علماً أن أمي كانت امرأة مميّزة وتعتبر من النساء الراقيات في تلك الفترة.
مات أبي واحتلت أمي العرش بلا انتخابات شرعية، بلحظات عدّلت الدستور وفصّلته بما يتناسب مع شخصيتها وعمرها وتاريخها، وطبعاً الأبناء يهتفون عظمة على عظمة يا ست.
كانت أمي القائد الأعلى لجيش العائلة فهي التي تحدد العلاقات مع الجيران والبيوت المجاورة وتحدد ساعات الصفر وترسل الإنذارات والتحذيرات إلى جارتنا التي أخذت منا الصحن الذي كان مطبوعاً بوردة حمراء واستبدلته بصحن آخر. وكانت أمي الأمين العام لحزب العائلة فهي التي وضعت النظام الداخلي من بعد أبي والمبادئ العامة والأهداف والسياسات الداخلية والخارجية وموقف العائلة من القضية الفلسطينية وحقوق المرأة، علماً أن أمي كانت امرأة مميّزة في تلك الفترة لكن بمجرد جلوسها على العرش ظهر لها أنياب إلا أنها غير مدببة، لا تغرس في الجلد إنما تترك عليه أثراً لا يزول، فتوعدت بمحاسبة الفاسدين والسرسرية والزعران والكتاب وقالت «زمن العسكر ولّى» فاهتمت بالتعليم وأرسلت أختي الكبيرة إلى الشيخ في الجامع لتتعلم القراءة والكتابة واشترت روزنامة وعلقتها في منتصف البيت، فاكتشفت من خلال الروزنامة أن هناك عيداً للأم وعيداً للمرأة، قرأته في الروزنامة صدفةً فتبنّته واعتبرته عطلة رسمية، تركت كل أيام السنة وصبت اهتمامها في هذا اليوم.
واستتب الأمن والأمان لدرجة أن أختي كانت تخرج من غرفة النوم إلى غرفة الضيوف الساعة الثالثة ليلاً وحدها من دون أن تتعرض لأي مسائلة, أماااان.. الذيب يرعى مع الغنم.
إلى أن قامت الثورة السورية فبدأت أمي تجلس أمام شاشة التلفاز وتراقب المشهد بعجز وذهول وفزع، أهملت أمي عيد المرأة ، صار يمرّ عيد المرأة مثلما تمرّ المجزرة، مرور الكرام.
صارت تكثر من الاستماع إلى الأغاني العراقية وتبكي، تراقب الكارثة والمشهد وتبكي، علماً أن الأغنية أحياناً تكون عن العشق والغرام لكنها كانت تبكي، صارت تخلط بين الشهيد والحبيب، أهملت العائلة، على الرغم من أنها كانت حزينة على مرور موسمين للبندورة ولم تخزنها ولم تصنع منها الدبس.
أصبح عمر أمي سبعين سنة ودخلت الثورة عامها الثالث، اكتشفت أمي أن الحبس مو بس للرجال، أمي لا تعرف خولة بنت الأزور لكنها تعرف رزان زيتونة.
علّمتها التدخين، فصارت تتحسر على عمرها الذي ضاع مع أبي من دون دخان. تعلمت كيف تنفض السيجارة بنقرة من إصبعها، وكل ثلاثاء تستهلك أمي علبة كاملة، فهي تحب فيصل القاسم. تغيّر أصدقاؤها، لم يعودوا يقتصرون على النساء فقط، صارت تجالس الرجال أيضاً لدرجة أنها تتساوى معهم في الذكورة عندما يكون هنالك شتيمة مثل «أنيج أمو على أم الباص اللي جابو».
ازداد قلقها على أبنائها وكثرت الجنازات في المدينة، وكانت كلما مرت جنازة وصاحوا أم الشهيد نحنا ولادك، تبكي علماً أنها لم تكن قد فقدت أحداً من أبنائها أو أقاربها بعد، إلى أن استشهد أخي، فهتفوا لها أم الشهيد نحنا ولادك، لم تفرق معها فهي كانت أم الشهيد قبل أن تفقده.
ترفض أمي النزوح ليس لأنها قوية، بل لأنها تحب بيتها، وهنا هي لا تقصد المطبخ أوغرفة الضيوف أوالسرير أوالحمام. بالنسبة لأمي البيت هو غرفة الفرش واللحف المرفوعة فوق المنضد منذ أن خلقنا، هذه الفرش واللحف ليست للاستخدام مهما كانت المناسبة كبيرة سواءَ كانت عزاءً أم فرحاً، هذه الغرفة بالنسبة لها وطن، ليس لأنه كبير وليس لأنه يتسع للجميع بل لأنها بنته لحافاً لحافاً وفراشاً فراشاً، وبالرغم من أنها دائماً تقول: روحي فدا الثورة، إلا أنها رفضت أن تعطي النازحين فراشاً أو لحافاً واحداً من هذه النضيدة.
أمي امرأة مميزة، شاوية، استطعت أن أفسر لها كل شيء في الدنيا. عرّفتها على هردبشت، حكيت لها عن الجيش الأحمر الياباني، فكّيت لها الرموز «داعش» و«حالش»، أفهمتها أن زنوبيا ليست مجرد سيراميك، وأن الدروز ليسوا نوعاً من السكاكر، وفي اليوم العالمي لمناهضة العنف ضد المرأة أقنعتها أن تشتم مهرها، عمتي. اشتريت لها حذاءً إيطالياً جديداً، شرحت لها ما هو جنيف 1 وجنيف 2، علمتها أن هنالك ثلاث حالات اجتماعية متزوجة وعازبة وناشطة، شرحت لها كل شيئ، وفسرت كل ما يمكن تفسيره إلا شيئاً واحداً عجزت عن تفسيره، لم أستطع أن أشرح لها ماذا يعني lol.
قلت مرة لصديقتي التي كانت تحدث أمها عبر التشات في الفيسبوك وكانتا تتحدثان باللغة الانكليزية (hi… how r u) وتجيب الأم (thnx… am fine… n u)
قلت لها هل هنالك أم تجيد الانكليزية؟ وتستخدم الفيسبوك؟ الأم عندنا نحن الشوايا امرأة قوية لها وشم وهذا يختلف عن التاتو، لا تقرأ، لا تكتب، لا ترتدي حمالة أثداء على الرغم من أنها تؤنث كل قماش الدنيا. المرأة الشاوية تفهم الحرية هكذا: أن تذهب إلى المدينة تجلس على الرصيف ترضع ابنها عندما يجوع ولو على مرأى المارة بكل براءة، علماً أنها ترتدي الزُبون والكلابية والهباري، يظهر ثديها بعفوية غير مكترثة. بينما فتاة «متحررة» ترتدي الشورت والبروتيل تخجل من حلمتها وتعتبرها التفاحة على رأس الرجل الذي يقف على الشجرة، تفاحة كل السهام، تنتظر روبن هود، بينما تسدل المرأة الشاوية ثديها كصوت جرس الساعة الكبيرة في وسط المدينة غير منتظرة أحداً.
لا غودو ولا المهدي ولا البرابرة.
هكذا فهمت الجندر السوري الأنثوي، إذا فهمي غلط.. فأمي ما جابتني عالدنيا منشان أفهم كل شي صح.
نشرت مجلة «أوراق» المقال، العدد الخامس. 2015