٦ قصائد
داليا طه
(١)
في مكان ما في العالم
هناك امرأة رأت كل شيء
الشاحنة التي كانت تحمل جرار العسل
اصطدمت بسيارة
العسل سال
على الشارع
على ركام السيارة
على الدم
على القتيل
على أحشائه
على العشاق الذين كانوا مختبئين
خلف الشجرة الوحيدة
على الجنود الذين كانوا هناك
لأنهم دائما في كل مكان
على الحجارة في أيدي الأطفال
والناس الذين جاءوا من كل مكان ليلعقوا العسل
لحسوا
الشارع
الجنود
ركام السيارة
العشاق المختبئين خلف الشجر
الحجارة في أيدي الأطفال
والأطفال
القتيل
دمه
وأحشائه
لحسوا كل شيء حتى اختفى
كل تلك الألسنة التي كانت تتحرك
كجيش، إنها الآن
في كل مكان
في أفواه الآخرين تسد الحناجر
أو تلعق عن كل رصاصة
في هذا العالم
جسداً كاملاً
حولها
(٢)
حتى خرجت من تحت الركام
كان علي أن أغرز
أسناني في
الاسمنت
أن أفتح ثقبا
كان علي أن أبتلع الاسمنت
أمعائي صارت
بناية
*
حين ولد ابني
سميته ابن
القارب
كان يشبه البحر
أزرق
ويخرج من فمه
زبد أبيض
حين ألقيناه في
البحر
ظل يطفو وراء قاربنا لخمسة
أيام
في الليل كان يبدو
كخوذة جندي
*
منذ نزعوا الشاش
عن وجهي
وأعادوني إلى البيت
كل يوم تأخذني
أمي
إلى المستشفى
وتسألهم
متى
عليها أن تنزع الشاش
الأسود عن
وجهي
*
منذ احترق وجهينا بالكامل
أنا
وأمي
صرنا توائم
*
حين تزوجنا
كانت الكهرباء مقطوعة لأسابيع
جلسنا عاريين في
السرير
قبلنا بعضنا طوال الليل
لم نشبع أبداً
في آخر الليل سحبت
خيطا من ظهرك
حتى خرج
منك قارب
كان لا يزال مبتلاً
كان يرتعش
كعصفور
*
أخبرتني أمي
بأنها رأتني حين وضعت
حجرين
مكان عيني أخي
أخبرتني بأنها لم تغضب مني
وأن أخي
يتفرج علينا كل يوم
من السماء
بعينين
حجريتين
*
لا زلت أنام وساعدي باكمله
في فمي
*
في الليلة الأخيرة سحبت
خيطا من ظهرك
حتى خرجت كل عظامك
كاملة
ودفعة واحد
كانت تشتعل
كشجرة
الميلاد
(٣)
نحن غاضبون جداً
غاضبون من العالم الذي لا يعرف كيف يطفئ الحرائق
غاضبون من الرجال
الذين لا يعرفون أين يضعوا
أيديهم حين يقبلوننا
غاضبون من أمهاتنا اللواتي
لم يعلمننا أنَّ الحبَّ لن يأتي
فهم ربوا
إخوتنا، عشاقنا
غاضبون على الأشجار
تلك التي وقفنا أسفلها
لنطلب من أحد أن ينظر في عيوننا
وتلك التي تنمو إلى جانب النهر
حتى تُعلَّق بها الجثث
ماذا نفعل بك أيتها
الأشجار؟
نحن غاضبون جداً
غاضبون على الوطن
الذي لا يتوقف عن الكذب
كم أنت وقح أيها الوطن
ولا أحد يستحق أن يموت لأجلك
نحن غاضبون من قلَّة الحيلة
غاضبون لأنَّنا لا نستطيع أن نخبر الأطفال
وهم يسألون عن مدنهم
بأن يبحثوا عن النجمة الأكثر لمعانا
حتى يجدوها
كيف تواسي من ماتت مدينته؟
البشر فقط يصيروا نجوماً
المدن تصير ركاماً
لا نقبرها
حتى لو تحولت إلى مقبرة
نحن غاضبون على الحدود التي لا نراها
إلا حين تقسم جسداً
إلى نصفين. من أنت أيتها
الحدود؟ كل الناس تسمي النباتات حول منزلها
سياجاً.
غاضبون على الأطفال الذين لا يخرجون من القبور
كما خرجوا من الخزائن حين توقفنا
عن البحث عنهم
غاضبون على أصدقائنا الذين يطلبون
منا أن نسحبهم من قبورهم
وقبورهم مدن بأكملها
ماذا يمكن ليدٍ أن تفعل أمام مدينة؟
أظافرنا بالكاد تستطيع أن تفتح
جرحاً حين تنمو نحو الداخل.
غاضبون على المسرحيات البائسة والمملة
تلك التي نغادرها
ونحن نشعر بالجوع
غاضبون على البحر الذي لا يشبع
على الله الذي لم يجعل
الرجال أيضا ينزفون
من أي
ثقب
حتى لو كان بحجم دبوس
غاضبون على آبائنا الذين لا يبكون
أولئك الذين تتكور
الدموع في حلوقهم وتكبر
كأجنة بلا أطراف
نحن غاضبون على أعدائنا الذين
لا يعيدون لنا موتانا، على أصدقائنا الذين يعرفون
الطريق إلى الأرشيف ولا يعرفون
كيف يسموا الحب
على الجنود الذين لا يعرفون الوحوش
التي نربيها في داخلنا
ونحن نقطع الحواجز
نحن غاضبون على الشعراء الذين يبتسمون للجلاد
على القوارب وهي تطفوا تحت سماء مثقوبة بآلاف النجوم
على الرؤوس المكدَّسة وهي تتطلع
على السماء المثقوبة بآلاف النجوم
على السماء في عرض
البحر، لا بد أنها الأجمل، على البحر تحت السماء على السماء
فوق البحر على
القمر الذي يتبع المهاجرين
وهم يقطعون الحدود
كشاهد قبر
دون أن ينزل مرة واحدة ليتسلَّقه الأطفال
قبل أن تلتهمهم الأسماك
لماذا لا تنزل أيها القمر؟
ماذا تفعل في الأعلى؟
نحن غاضبون لأنَّه كان يكفي أن يموت شخص
واحد في العالم
حتى نتعلم فكرة الموت.
غاضبون أن حتى هذا سيكون
لا أخلاقياً
نحن غاضبون على كل شيء
بليد ولا يتحرك
أيها العالم
كل شيء يتغير
وعلينا أن نشق بطنك
بسرعة
نحن غاضبون وسنعرف بعضنا
نحن الجيش
الذي يكبر في كل العالم
دون أن ينتبه له أحد
نحن الجيش الغاضب جداً
والذي لم يحمل
أبداً
سلاحاً في يده
هكذا سنعرف بعضنا
من جلدنا
الذي نرتديه
بالمقلوب
(٤)
نعلم أطفالنا
معنى الفقد والغياب طوال
الوقت.
كل الألعاب التي ابتكرناها معهم
هي حيل سرية
لنخبرهم
بأنهم سيفقدون كل ما لا
يملكونه بعد
بأن القلب ورم دائم
لا نستطيع أن نستأصله
بانه سينتفخ
حتى يشعرون بان هناك
بالونا في صدرهم
وأن هذا سيتكرر
كثيرا.
هذا موجع
ومخيف، أن تعرف بأن على طفلك
أن يختبر يوماً
كل هذا الألم
أنه سيتمنى لو لم يولد.
ولكن حتى ونحن نفعل ذلك
حتى ونحن نعدهم
للفقد
هناك ما ننساه
أنظر إلى تلك الأم
تغطي وجهها بيديها
ثم تبعدهما فجأة وهي تضحك
والطفل يضحك
كل مرة يخرج وجه أمه
الشمس الوحيدة التي لا تؤذي
حين يقترب منها
إنه يتمرن الآن على أن يثق بالغياب
أن يحتمل الفقد
أن أمه
ستعود
بنفس الوجه
بنفس الحب كما تركته
هكذا سنتعلم أن لا نفزع
حين يخرج أحبتنا
من البيت
أن لا نخاف من الخسارة
كلما غابوا عنا
لدقائق
ولكن هذا كذبة، أليس كذلك؟
كل مرة نغادر فيها
نعود محملين
بالندوب
وبالجروح
وبوجوه كثيرة تحت قمصاننا
أنت تعرف ذلك جيداً،
بان كل مرة تضع يديك على
وجهك لتخفيه
تفعل ذلك
حتى تهوي ضربة السكين
على مكان
آخر
في
جسدك.
نحن نعود نشبه أشخاصا آخرين
حتى حين نخرج
لشيء تافه كشراء الحليب
هكذا
نبدأ بخسارة بعضنا البعض
اللحظة
التي نبدأ فيها
بالحب
(٥)
بكى جدي
لعدة أيام
في النهاية اعترف بأنه وحيد
وكأنه لم
ينجب سبعة أبناء
وكأن أبناءه لم ينجبوا خمسة وعشرين
حفيدا
هاي هي جدتي تجلس في البيت
بين قدميها سلة تين
إنها شاردة
وهي تقشرها بحذر
تطعمها لجدي كما لو أنه طفلها
هذا هو شكل قبلتهم
الآن
أطراف أصابعها
على شفتيه
كل شيء حولهم يذكر بالنسيان
لا غبار في هذا البيت
إنه لحمهم الذي يغطي كل شيء
حتى الوسائد.
منذ زمن توقفوا عن النوم في بيوت الآخرين
إنهم الآن سكان أجسادهم
بيتهم يتداعى فوقهم بينما لحمهم
ينمو فوق
لحمهم.
في نفس سلة التين
وأسفل الحبات الجيدة
ستجد جدتي قلوبا صغيرة
إنها قلوبنا
نحن أحفادها الخمسة والعشرين
الموزعون على هذه الأرض
غير القادرون على
الحب
ستنظر إليها كما تنظر إلى
كل تلك الحبات
التي نضجت كفاية
ولا تصلح
لشيء سوى أن يصنع منها
مربى
هذا المربى
في الثلاجة
البارد الآن
هو جثثنا
كل ما يستطيعوا أن
يأكلوه
منذ فقدوا
أسنانهم
(٦)
ربما الاكتشافات أفضل
حين تأتي وأنت تودع الحياة
ما معنى أن أعرف الآن
أن الحب لن
يعوضني عن خسارة مدينة
وأنني سأظل أمشي
بقلب مثقل
بأنني حين أشرب كل مياه المحيط
سأجمع الملح
تحت لساني.
لقد مشيت في المدينة لأسابيع
وأنا أقاوم رغبتي بأن أصور
كل شيء سأتركه
ما الذي سأتذكره بعد عشرين عاما
سوى أنني كنت على وشك
المغادرة؟
سأتعب من اخبارك بذلك
وستتعب من
النظر نحوي كما لو أنني لم أشبهك أبدا
ماذا نفعل أنا وأنت الآن؟
كلانا حزين ويرثي
أصدقائه،
لقد راقبناهم جميعا
والحياة تخرج من جلدهم كالقوارب
وتترك بدلا من الثقوب أعين
عمياء.
كل شيء صار محزنا منذ تعلمنا أن
نستخدم جميع جروحنا
للابتسام
ها نحن نجلس لساعات دون أن نتبادل كلمة
واحدة
نقشر الدهان عن
الحائط لقتل
الوقت ولكننا سرا نتمنى بأن نجد
حياة أخرى
أسفله.
كلانا ينام وهو يحلم بأن نكون أشخاصا آخرين
ولكننا لا نريد أن نتبادل
حياتينا.
لماذا لا يمكن أن أضع رأسي على
قلبك في نفس الوقت
الذي تضع فيه رأسك على قلبي؟
لا بد أنه مخيف جدا أن تستمع لقلب
أحد في نفس
الوقت الذي يستمع فيه
لقلبك.
الجنود لا يعرفون
كل العتمة
التي نحملها تحت جلودنا
ونحن
نعبر الحواجز
تلك التي نربيها
ككلب متوحش.
تحت جلدنا
ليل دائم
هل فكرت مرة وأنت تمرر أصابعك
في شَعر من تحب
بأنك تحمل
داخلك نفس العتمة
التي كانت تلف العالم
بأكمله
قبل أن نكتشف
الكهرباء.
ما هي هذه الحياة
التي تمنحنا بيوتا
لنخرج منها
بعظام أقل
وبصور الأشعة
وبشعور فظيع بالخيبة؟
نحن نقف حين نودع بعضنا
حتى لا نعرف
من منا
يُنزل إلى القبر
من منا
الذي
مات