Issue 3: Dictationship

مُذكرات باتجاهٍ واحدٍ و زاوية ثابتة

علي عيال

قيل إنه كان قبل ظهوري مساحة خضراء صغيرة في الوسط - وسط مساحة رمادية - وبعدها وضِع عموداً فيه لوح وفي هذا اللوح أحرف وأرقام، عرفتُ الصفر والنقطة، وبين الرقم إثنين والرقم ثلاثة اخترت مجموعة من الأرقام واستخدمتها. لم استخدم الصفر. تعلمتُ وسمعتُ من الأفراد كيف يستخدمون تلك الأرقام وعلامَ يطلقون على تلك الأحرف. تستخدم الأحرف للإشارة إلى ثمانية وعشرين صوت. اللغة تتغير مع تقدم الأرقام.

ظهرت في ساحة قريبة من خط يُسمى بالرشيد، على يد شخص لم أعرفه تماما ولم أستطع أن أجده بين الأشخاص، كان ذلك ١٩٧٠، هذا هو التعداد الرقمي الذي يستخدم لتقدم اللحظات والأجسام المتحركة، عرفتُ ذلك مؤخراُ من الأصوات المتعددة التي دارت بالقرب مني، لم أستطع تجميع شكلي الخارجي من المارة، ما زلت أتذكر كيف اجتمع الناس على شكل نقاط متصلة ومنفصلة. ضربوا باطن إحداهما بالأخرى، واصطفقت الأطراف، الصوت كان ضمن مستوى واحد حينا مستمر وحينا متقطع، لم أعرف لماذا كانت وجوههم تبدو لي متغيرة تأخذ شكلاً وبناءاً مختلفاً لا أستطيع تفسيره، كنت أتمنى أن أرى ما هو موجود أسفلي، تلك الأشكال التي ينظر لها الشخص عندما ينظر لي. كانت عبارة عن أرقام وأشكال حاولت أن أجمعها عن طريق الآلات المتحركة حولي مختلفة الأحجام، هناك شىء ينقل ما تراه، قطع في هذه الآلات يسمح لي أن أرى شكل المساحة التي تبدأ من نقطة لا أعرفها حتى وسط تكويني.

تكونت تلك الصور من حركة الأفراد وتغير الأرقام، عشتُ مع الساحة التي أقف بها فقط حيث كانت تصلني الأحداث اليومية التي تبعد عني بخطين أو أكثر متقطعة وغير كاملة، وجودي في الساحة أعطاني تلك الميزة عن أصدقائي الذين نادرًا ما أحصل على اسم أحدهم .

أمام عيني صورة قريبة تتكون من هيكلين يتوسطهما خط يمتد بارتفاع تدريجياً . مساحة لا متعينة كمحيط يمكن أن يتسع إلى ما لانهاية.

أقف في مكاني بثبات وقوة، تلك القوى لا تسمح لي ان أمارس الحركات التي أراها. أتذكر أولى الأصوات التي سمعتها بين شخصين، وقتها كان الصوت حولي يحمل هذه الكلمات "تعديل الدستور ومروره بأربع مراحل حتى وصل مرحلة ما يسمى بـ"مجلس قيادة الثورة "والهدف هو تحقيق الدولة العربية الواحدة وإقامة النظام الاشتراكي" كان وقتها كل الأصوات تحمل هذه الكلمات التي لم أفهمها، وليس لها هيكل أو شكل كي أراها.

الذبذبات الصوتية تقترب مني. جلسوا على ذلك الشيء تحتي دون تفاصيل؛ جلسوا وسط وخلف خطوطه الخارجية، في نفس التعداد الرقمي للأحداث: 1970.
*

تتكرر الصورة نفسها والحركات وتتغير الأرقام. الذي يُغير ذلك التكرار هو تلك الأشياء التي لا تشبه من في الأرضية، أشياء أعلى منهم بمسافة رأسي أو أبعد، حجمها حجم طرف الشخص الذي يمُسك الأشياء، يُطلق عليّ شيئاً يسيل على رأسي حتى باقي تلك المساحة، أنتظر مادة سائلة ليس لها شكل تشبه ما أتكوَّن منه، يأتي أشخاص يشبهون الحركة التي في الساحة يغطون أنفسهم بشيء متشابه ومُكرر، وضعت على مقدمتهم التي تغطيهم علامات، مع تغير الأرقام يعملون على لمسي، هم الوحيدون الذين يلامسونني. هم من وضعوني في الساحة؟

تمر ببصري صور كثيرة تدور حول الصانع في المكان الذي أقف فيه وأظل أسئل نفسي أين الذي وضعني هنا في وسط هذه الساحة وأختار لي حركة معينة. حاولتُ أن أعرف هذه الحركة التي تحتوي على ارتفاعات كثيرة، لكن الشيء الوحيد الذي توصلت إليه هو أني تقريباً أشبه بعض أجزاء وأطراف المارة.

في إحدى الأيام عندما يغيب شيء يشبه الدائرة ويخلف بعده شيء يمحو التفاصيل، سمعتُ صوت شخص ينادي بإسم إسماعيل ومحمد ويربط بين الإثنين بصوت متقطع، كان يسير بحركة لا تشبه حركات أصدقائه في وقت ظهور التفاصيل، يتحرك باتجاهي، كان الشيء الذي يحمل رأسه ويديه وباقي أطرافه غير سميك جداً صوته لم يتوافق مع الهيكل العام.
لكن لم يعطني شيئاً يساعدني على معرفة تفاصيلي، التي تساعدني حتى أعرف المكان الذي أشغله، أنا الآن محمد أم إسماعيل؟ تركني بعدما رماني بشيء يعكس الأشياء يشبه الشيء هذا الذي يُرمى عليَّ عندما تطول فترة الأرقام وتكثر مادة الأشياء الطائرة. أسفل القاعدة تفتت ذلك الشيء وبدأ يُعطي مساحات تفتح مساحات جديدة من على الأرضية وكان في سطح تلك القطع، رأس وشكل ومساحات سوداء ونقط بيضاء صغيرة .

خطوط نظراتي وجهت نحو الهياكل الكبيرة التي تقطعها الهياكل الصغيرة وتمر من داخلها، القريبة مني بعدما عرفت مؤخراً أن اسم هذه الاشكال بالتحديد " للصيادلة" واسم تلك الهياكل "البنايات" مبنى، عمارة، متعدد الطوابق، كانت لهم ولتجمعاتهم. لكن لم أفهم معنى كلمة الصيادلة كنت أشاهد الداخلين والخارجين منها.

ما أهمية جمع كل تلك الأصوات والمعلومات؟ أين كل تلك النقاط التي ضربت أطرافها أمامي، كل الأشخاص تتحرك بمسارات مختلفة.
*

انتهى لفظ رقم سبعين كصديق لكل الأرقام، وتولى الثمانون أو كما يسميه الأشخاص في المساحة الثمانينات كصديق للواحد وباقي الأرقام.

تغير وجه الناس كما تتغير أشكال المباني، واللوحات، وتتغير طريقة تفسير للأشياء–ما يُطلق عليها اللغة مع تحرك الأشكال واختفاء التفاصيل وظهورها مرة ثانية تدريجيّاً، حتى الحرف وشكله، من خطوط مستقيمة إلى ملتوية، أشكال الحروف لا تقودني إلى المعنى، تقودني إلى الشكل فقط. كانت أشكال البشر والبشرة تتغير وملابسهم كذلك، تتغير مسارات الشوارع، أشاهد الأشخاص يجتمعون على شكل مجموعات متفرقة وتحرك أفواهها كثيراً فيما بينها. الأصوات بدت كأنها تبعد عن المساحة، وصديقي "مبنى الصيادلة" هو الآخر قد خلا جوفه من الأشخاص وباقي المباني قد أغلقت أفواهها، حتى تلك الخطوط السوداء التي ترتبط بنقط بعيدة وقريبة بدت خالية من الآلات المتحركة. بعض ألوان الملابس توحدت بلون يشبه لون أوراق الأشجار.

مازلت أشاهد بعد مرور ثمانية أرقام كل رقم من الثمانية في جوفه إثنا عشر رقماً وكل رقم في جوفه ثلاثون رقماً وهناك ثلاثون أو واحد وثلاثون أو تسعة وعشرون رقماً في قلب كل رقم. قطعت كل تلك المسافة الزمنية الفارغة والمتغيرة في الألوان والتي كانت بلا أصوات أو حروف تُسمع فيها، كانت الحروف تزداد ككتابة لا كصوت سطحها كسطح كما يسميها الناس "الشمس" تلك الحروف كانت تقطع ظلام مربعات القماش التي تعلّق على الجدران، قطع من القماش كُتب في قلبها حروف وأرقام، كانت تغطي فم صديقي مبنى الصيادلة ومبنى التجارة، وضعت أيضاً تحتي، فوق أرقامي وحروفي، حروف وأرقام جديدة. كان هناك شخص ضمن مسار النظر يقرأ ما كتب في مساحة الظلام، القماشة الصغيرة تحتي، وقال أعرف هذا الشهيد. هذا هو ما في جوف الثمانية أرقام.
*

أيام لا تحمل في حركتها وتغيرها شيئاً جديداً، شكل المباني يتغير سطحها، وتثقب شبابيكها، حركة قليلة حتى مع كثرة التفاصيل التي يرميها الضوء على الظلام. لا أعرف كم تغيرت أنا. أنتظر المراكب الكبيرة التي على سطحها انعكاس كي أرى كيف أبدو وكيف يبدو ما ورائي، لكن الحركة قلَّت، ليس هناك سوى مركبات صغيرة ومسرعة.

بدأت أرى تغير في تسريحات الشعر والملابس والماركات والسيارات واللافتات الخاصة بالمحال بين فترة وفترة تتغير هويتها ووظيفة كل مبنى، إلا أنا ما زلت أحمل هوية لا أعرفها تماماً.

"الليل" هم يسمون ذلك الظلام الليل. عرفت الظلام. ويطلقون على التفاصيل والأشكال "النهار"، النهار اسم وهو ضد الليل، والنهار اسم، كل رقم كان يسمى "يوم" ، والليل اسم لكل ليلة، لا يقال نهار ونهاران ولا ليل وليلان ، إنما واحد النهار يوم ورقمان يومان وجمعه أرقام "أيام"، وضد اليوم ليلة وكل ليلة ليال، وكان الواحد ليلاه في الأصل، يدل على ذلك جمعهم إياها الليالي وتصغيرهم إياها لييلية.

اليوم وضعوا أمامي شيء يشبه العمود في رأسه ألوان، كان يتم التحكم به بالآلات المتحركة لا بالأشخاص.

وجوه البشر وسطوح تلك البَشَرة التي تتغير كما المباني. انتبهت على ذلك الذي نظَّف سطحي، تغير كهذا لم يكن في الأرقام التي مضت، ركزت عليه، كان أقرب تفصيل بالنسبة لي، لا أعرف هل أنا ايضاً أبدو هكذا، وهناك شيء قد ثُبِّت في تلك البشرة لم يكن صلباً يتحرك في أعلى رأسه، ركزت في جوفه كي أرى سطحي "بشرتي" من المساحة السوداء التي تتحرك بسرعة، كان هناك انعكاس، لكن كان يتحرك بسرعة، تتحرك تلك الدوائر بسرعة في وسط ذلك الفراغ.

في هذه الليلة التي في السماء، كانت النقاط الحمراء تتحرك وبعدها تخلف صوتاً يشبه صوت الانطلاق، لا تشبه النقاط االبيضاء الجامدة، تتحرك من قلب الأرض وتختفي في السماء. وسمعتُ أيضا صوتاً، صوتاً يحمل ألواناً من بعيد.

اليوم لا أرى شيئاً. هناك قطعة سوداء غطت الرؤية لمدة دقائق ومسحت كل شيء. كانت الرياح قوية. من أين يأتي الريح؟ كأن هناك شيء يشبه الضغط. يضغط كل النقاط الثابتة والموصولة ببعضها.
شخصٌ ما يحمل في يده شيئاً صغيراً، وجهه عليّ وخرج من ذلك المربع الصغير ضوء سريع جداً، ذلك الضوء أخذ كل التفاصيل ووقف الزمن. أنا أراه و هو يُري ما خلفه من أصدقائه ذلك الضوء.

تغير صديقي الذي يحتضن الخط وينزل بين فترة وأخرى تحت الأرض. يرسم لنفسه خطوطاً جديدة كل سنة ويدفع قاعدته نحو الأرض، اليوم انتقل من محل للجراحة إلى محل لا أعرف اسمه. لم أعلم للآن ماذا أطلق عليه الناس. لكن في محتواه الآن حركة وألوان كثيرة وقطع، تلك القطع تنتظر الصوت أو الهواء من الشخص الذي يحملها لكي تنطق.

مع هذه الشدة والصوت تساقط الانعكاس الذي في هذه السماء، الانعكاس المفتت، كان يفحص الأرض والحجر، بعدها ترك مساحات صغيرة وكبيرة، كل مساحة في سطحها سماء، وكانت هناك قاعدتي والأحرف. لم أرَ رقم ٩ ولا حرف عين ولا الراء، كان هناك ثقب بديل لكل حرف ورقم. رحل ذلك الفضاء المؤقت آخذاً معهُ الأحرف والأرقام والسماء. كانت لغة جديدة.
بعض هذه الثقوب انتشرت في الشبابيك ورؤوس أصدقائي.

لا أرى ما في الخلف، ذلك الخلف المفتت في زجاج السيارات، ذلك الخلف الذي في الشبابيك، الخلف الذي تحاول المباني نقله لمسار رؤيتي، الخلف الذي يوماً بعد يوم يُثقب بثقوب كبيرة وصغيرة. اليوم فتحوا ثقباً كبيراً في رأسك يا مبنى، ثقب للضوء الذي السماء. ذلك الثقب الذي أعطى للمبنى نفسه استراحة من الأقدام التي في الأجساد.

اليوم أضاؤوا كل الصور المتشابهة، كان ذلك العنصر يمثله النور و اللون المتغير، هذا النور يترك بعده شيئاً يشبه الظلام، يحوِّل الصور الى قطع مظلمة متناثرة تختلط مع الريح وتختفي.
*

بعد فترة من الفترات، انزلوا جسداً من ظهر مركبة صغيرة، كانت تلك الأجساد تحمل قطعاً صغيرة وطويلة، تلك القطع خرج منها ضوء سريع، الضوء كان يحمل معهُ الصوت، هذا الضوء أطفأ ذلك الجسد، احتضن هذا الجسد الأرضيّة وخلف بعده لوناً. مساحة خرجت من رأسه جعلتني أرى ما في السماء، كلما اتسعت تلك المساحة، اتسعت السماء. لكن بعدها جف وأخذ ذلك الجفاف كل الليل الذي في السماء. حملوا هذا الجسد في اليوم الثاني.

تكررت تلك الفتحات وتجمعت على بشرة أصدقائي، كان الناس لا يستطيعون اللحاق بسرعة وكثرة تلك الفتحات الصغيرة؛ كلما أغلقوا واحداً وجدوا آخرَ جديداً.

اليوم مركبة صغيرة انتشرت أجزاؤها فجأة في وسط الساحة، بعدها الأجزاء واصلت مسريها بفصل و ثقب بعض العلامات و الصور، و بعض الشبابيك، حتى الأجساد، الأجساد نفسها أختفت، أخفى هذا الضوء اللون شكل تلك الأجساد بطريقة هو اختارها لكن لم أعرف لماذا لم تتحرك واختارت حركة ثابتة بعض الأعضاء، اختلطت بعض تلك الأجساد مع غيرها، بعدها بفترة وصلت أجساد لم يصلها الضوء ولا اللون ، لكن غير لهجة المكان لهجة الاشخاص كصوت عالي وجهه نحو ما في الأرضية. حمل ما تبقى في الأرضية كقطع منفصلة. حملوا كل متغير و منفصل إلا تلك المركبة التي تغير لونها .

نزل شخص من مركبة في الليل كان يحمل نفس القطعة التي تفتح السموات في الأرضية، ووجّه ذلك الشيء بوجهي، انطلق منه ضوء وقطعة لم أستطع أن أشاهدها لسرعتها، لكن من الواضح أنها صغيرة. بعدما أحسستُ بها في رأسي، تحركت وهي تحفر داخل رأسي حتى توقفت، لم تخترق كل المسافة، ثم كرر ذلك الضوء، بإطلاقه ثانية، اقتلع هذا الضوء قطعة جزّأتْ المشهد الذي كنت من خلاله أرى، وسقطت على الأرضية، كنت أنتظر أن أرى نفس الشيء، هذا الذي خرج من جسد الشخص كبقعة أو مساحة مستمرة، كنت أتطلع للبناء الذي أنا عليه أن يسقط ويحتضن الأرض لكن لا شيء سوى فتات
من الحجارة الصغيرة تناثرت من أعلى شكلي.

هذه الليلة رأيت شكلي الخارجي من أسفل بفضل ذلك الضوء، رأيتُ أحرفاً، والبعض منها اختفى، أما باقي الأرقام مثل الولادة والوفاة فقد خلعها الشخص ثم رحل. كنت شخصاً أشبه كل الأشخاص لكن بمقاسات مختلفة وحركة ثابتة، لكن مدة المشاهدة لم تستمر طويلاً حتى حطمت مركبة كبيرة هذه القطعة، أكملت باقي الرؤية بالأخرى التي ما زالت برأسي في نفس الاتجاه، كنت أنتظر ذلك الضوء مع قطعة الحديد السريعة.

كانت الرياح تدخل في ذلك الجوف الذي في رأسي لفترة وتخرج، حتى بعدها بفترة اغلقت تلك الفتحة وأغلق ذلك الحدث كأثر .
**

علي عيال
ولد في بغداد سنة ١٩٩٤، حاصل على شهادة الدبلوم من معهد الفنون الجميلة في بغداد في العام ٢٠١٥. يسعى في أعماله لأن يستكشف علاقة المجتمع والسياسة، في تعقيدها، باستخدام وسائط الڤيديو والتصوير الفوتوغرافي والرسم، وذلك بغية دراسة السلوكيات الاجتماعية، وبالأخص في سياق بغداد والعراق. أقام منذ العام ٢٠١١ معارض جماعية في بغداد ومصر ولبنان وأمريكا واليونان وكوبا وغيرها.