Issue 4: Counterlexicons

خرافة غزة: منع الرثاء يؤبِّد الكارثة

هلال شومان

كان الظلام يحبو حبوته الأولى، متردداً بين السماء والأرض في ليلة من ليالي أواخر الصيف امتزج ظلامها بضبابها، المثقل بالماء، حتى اختلط الأمر بينهما واختفت الشمس بلا غروب وأصبحت السماء بحراً والبحر سماء ولم تعد العين تميز سطح البحر عمّا هو فوقه من هواء. ضباب ثقيل يخنق الأبصار والأنفاس كأننا عدنا إلى بدء الخليقة وكأن ذلك الدخان من نفس الماء حين تنفس فجعلها سماء واحدة.
إميل حبيبي - خرافيَّة «سرايا بنت الغول» - ١٩٩٢

يتَّسِم زمن اليوم بكونه بالغ البصرية، وبقدرته الفائقة على إتاحة كل شيء. فكل ما هو شخصي فيه عام، أو هكذا يبدو لمُبصِريه، لكنَّ ردود الفعل على مُتاحه الكارثي غالبًا ما تبقى عند سطح الكلام والمعنى، وتتجنب التعرض لواقع سياسي لم يُنتِج الكارثة فحسب، بل لا يريد إيقافها.

تعيد هذه القراءة ترتيب بعض المشاهد التي أنتجتها القوة الإسرائيلية وما واكبها من استرداد لغوي مقصود وغير مقصود للمعنى، وترغب بالإجابة على الأسئلة التالية: لماذا شعر الغاضبون العرب أنَّ الكارثة كارثتهم؟ وما نتيجة منع الرثاء؟ وإلى أين يتجه المجتمع في غياب السلطة؟ وكيف للغة من يعيشون الكارثة أن تستردَّ المعاني الكامنة وراء ما يحدث؟

كارثتهم: لماذا شعروا أنِّهم هناك؟

تُحوِّل خوازميات الشبكات «الكارثة السياسية» التي وصلت إليها القضية الفلسطينية، وتحاط بها، إلى كارثة لقيطة منزوعة السياق السياسي، تتكئ فقط على فضح الازدواجية القديمة للمجتمع الدولي. لكنَّ توسُّع غرفة الصدى التقنية هذه، سرعان ما يتَّضِح أنه -على عكس منطق الإتاحة- فعل كتمان.

ففي البداية، صُدِمَ متابع المحتوى القادم من غزة بالهول الذي رآه. لقد حدثت أهوال كثيرة في التاريخ، لكنَّ طفو الصور بهذا الزخم والتكرار، قلب الكارثة عند المُتابع العربي إلى أزمة شعورية وشخصية يتقدمها عجزه الخاص. وتحت عنوان «لا تشِحْ بنظرك بعيدًا»، لم ينتبه المتابع لهذا التشوُّش الشعوري الذي ينتهك جسد الفلسطي أحيانًا، ويحوِّل حكايات العيش تحت الاحتلال ومقاومته إلى حكاية وحيدة يكون فيها الفلسطيني صامدًا عندما يوَدُّه المُتابِع أن يكون، وضحية عندما ينزلق شعور الأخير.

إنَّ تحوُّل الفلسطيني إلى محتوى أنتج إشكالية من أصل صناعة هذا المحتوى، فهو قابل للاستهلاك وذو صلاحية سريعة الانتهاء في آن. إنَّه مصنوع ليستبدل نفسه بنفسه بتتابع الأحداث. لكنَّ المُتابِعين، في عجزهم، سرعان ما شعروا أنَّهم كي يوقفوا الكارثة، أو على الأقل كي لا يسهمون في تطبيع حدوثها، عليهم إعادة تصدير صوَرِها، وبهذا الفعل لا تتحول الكارثة إلى جريمة مجهولة في ليلٍ داكن معدوم الشهود.

على أنَّ تواجُد الكارثة البصري على المنصات والشبكات سرعان ما تناسب عكسيًا مع القدرة على الفعل. إنَّ تمدُّد الكارثة البصري على النحو الذي شهدناه، عنى أنَّ الفعل السياسي كان قاصرًا عن إيقافها أو معدومًا. وبهذا المعنى، فإنَّ كارثة غزة، هي كارثة سياسية في المقام الأول، قبل أن تكون كارثة إنسانية وجماعية، وهي نتاج كوارث أخرى سبقتها وظللتها في كل بلد عربي منع المظاهرات أو صَرَّف وهم دعمه للفلسطينيين في الهويات القومية لمواطنيه.

في ظل الشعور العام بالعجز، يصير الفلسطيني فلسطينيَّيْن أو أكثر. هو فلسطيني في ذاته، وهو الآخرون أيضًا الذين يروه، ومن دون أن يَطْلُبَ هو ذلك. بهذا المعنى، إنَّ العرب غير الفلسطينيِّين يُنتِجون فلسطينيًا متوهَّمًا في أذهانهم يُوائم عجزهم. وبقصد، أو بغير قصد، تعيد صناعة المحتوى القضية الفلسطينية إلى زمن اخترعت فيه منظومة الاستبداد العربية عبارة «فلسطين هي البوصلة» للقفز عن أي مساءلات داخلية، وبدل أن تصير فلسطين وجهة البوصلة، وتؤمن لها بلدان المنظومة مقومات الصمود السياسي والنضالي، تتحول فلسطين إلى البوصلة نفسها التي تُعدِم أي حياة سياسية حقيقية من شأنها أن توفر للفلسطيني مقومات الصمود واستمرار المجابهة.

مع الفلسطيني المتخيَّل، يُنتِج الشعور بالعجز عند المتابع العربي احتفاءً بصمودٍ يُعاكس معناه. فالفلسطيني عندما يُعلن أنَّه صامد فهو يطالب غيره بمقومات صموده ليظل صامدًا. أما عندما يحتفي المتابعون العرب بصمود الفلسطيني، فإنما هم يطبِّعون عجزهم بتجنُّب أي مطالبة سياسية من أنظمتهم تحملها المسؤولية السياسية وتدفعها نحو إيقاف الكارثة.

وهنا، قد يكمن أصل التماثل الشعوري مع فلسطينيي غزة. ففي ذهن الغاضبين الشباب العرب الذين شهدوا الثورات العربية في ٢٠١١ وما بعدها، تستحثُّ كارثة غزة فكرة موغلة في الرعب عندهم: «لم تتوقف هزيمتنا. وتسليمنا الذي مضى عليه عقد لم يوقِف تدهور الأشياء نحو وجهتها الأخيرة». هذه الفكرة تقسِّم شباب «الربيع العربي» إلى جماعتين: جماعة مرعوبة من هزيمتها السابقة في ٢٠١٣ ومع ذلك فهي تكمل في تجنُّب موضعة الحدث الفلسطيني في الواقع السياسي العربي الذي لا يستطيع (ولا يود) إيقاف الكارثة، وجماعة أخرى جعلت من هزيمتها عدسة مستمرة تقرأ من خلالها كل الأحداث وضمنها الواقع الفلسطيني تحت الاحتلال حتى تكاد أن تطرح على الفلسطينيين منطق العبور للدولة. في الحالتين، يبقى الفلسطيني فلسطينيًا متخيَّلًا ينبعث كإسقاط لتجارب غيره السابقة في بلدان أخرى، بدل أن يكون فلسطينيًا أولًا في وجوده تحت الاحتلال وفي شتاته.

هناك: كيف لا يكتمل الرثاء؟

من المفارقة والمتوقع في آن أن تبدأ هذه الكارثة بمشهد الخروج الذي رأيناه في السابع من أكتوبر ٢٠٢٣. أحيانًا، يكون المستحيل متوقعًا للغاية. ما الذي يمكن انتظاره من سجن مفتوح غير الهرب؟ وما الذي يمكن توقعه من الهروب من السجن غير العقاب؟ على بداهة هذه الأفكار، مذهل أن تقترن العودة بالخروجِ، كما اقترن الرحيل سابقًا خلال النكبة بالخروج.

ستأخذ إسرائيل هذا الخروج وتُعيد انتاجه داخل السجن الذي صنعته، فتُخرِج الفلسطينيين من منازلهم تحت ضغط القصف، ثم تُخرِجهم من مناطق الشمال وتدفعهم باتجاه الجنوب، أما من قضى تحت القصف، فستَمنع إخراجه لدفنه كما يليق لأنَّ الدفن في منطق الإخراج المعاكس عودة، وهي ستستمر في نبش المقابر القديمة والمقابر الجماعية المستحدَثة، وتضغط باتجاه كل ما يمنع العودة، ولو كانت العودة اسم قبر معلَن.

عبر تخريبها، تُخرِج القوة الإسرائيلية جوف المدينة إلى سطحها وتمحو معالمها، في فعل يُراد منه محو ذاكرة الناس والمكان. فالقبور هو تمثُّل صريح لمن وُجِد ذات يوم فوق الأرض المنبوشة. لكن القوة الغاشمة تتجاهل ما يمكن للفقْد في ترداده أن يُنتِج. فالناس في وقوفها عند طلل بيوتها وتكرار اختبارها لفعل الفقْد، لا تُكمِل رثاءها كما يجب، وإعاقة رثائهم يَلِد ذاكرتهم من جديد كتاريخ سفلي وعام يعاند الخفوت. الذاكرة عندهم ستبقى ما كان يجب أن لا يكون.

الفتاة الناجية التي ظهرت في أحد الفيديوهات سألت عن معنى الحياة إن ماتوا كلهم وبقيت هي. أين تبقى وفي أي حياة ولِمَ لَمْ يأخذوها معهم. كانت تسأل: من سيتذكر من، ومن سيرثي من؟ إذ ما معنى الفقد عندما يُقتَل الغالب من عائلتك ومعارفك؟ وما معنى الفقْد عندما تصير الحياة استثناءً؟

لحظة اكتشاف الهَوْل، يتبدى الرثاء اختلاط صوت البكاء، بصوت الكلام أثناء البكاء، بانتفاضة الجسد اللاإرادية. يحضر عالم من الغضب الهائل تعزِّزه فكرة: «حتى الحق برثاء طبيعي انتُزِع منا».

فالرثاء يتطلب بدءًا معرفة الشخص بالقدر الذي يجعل الراثي قادرًا على ذكر طيب أثره. هذا ما حدث في حالات كثيرة مع شهداء غزة. نَعْيُ تلاميذ الكاتب والمحفِّز والأستاذ رفعت العرعير مملوء بطيب الذكر. وذكره على النحو الذي حدث، يستعيد معاني أن تكون أستاذًا وتلميذًا في آن، وأن تكون كاتبًا في مفارقتك للسلطوية التي يفرضها عليك موقعك، باتجاه إتاحة الفرص للآخرين وتحفيز قدرات التلاميذ على انتاج المعنى.

تعيد الحرب على غزّة المجتمعَ لزمن ظننّاه قد جَبَّته التغيرات التي حكمت الحياة المدينية. لكن ما يظهر للعيان أنَّ حصار غزة وقلبها إلى سجن مفتوح والإمعان في القتل فيها، أعاد إنتاج أواصر مجتمعها الحميمية. هذا ما افتقدته أماكن تعرضت لكوارث بعد أن أفرِغَت من أهلها أو ألِّب بعضهم على بعض في منطق تنافسيّ جماعاتيّ، أو حُكِمَت بالمنطق الإغاثي اليومي مدفوع الأجر.

فبينما تعذِّب نظم الاستبداد ضحاياها في الخفاء بما يُعاظم من أسطوريتها ويعيد إنتاج سلطاتها، وتخضع ممارسات التعذيب عندها لتشكيكٍ هو نتاج موقعها التابع في العالم السياسي الحالي والذي لا تود خسارته، فإنَّ الاحتلال الإسرائيلي مهجوس بتعذيب ضحاياه أمام العالم. من يذكر سياسة تكسير العظام في الانتفاضة الأولى قبل أكثر من ٤٥ عامًا؟

يعرض الجيش الإسرائيلي بشكل لا اكتراثي مشاهد التعذيب على الملأ لمن قُدِّموا في الخطاب العام كحيوانات بشرية. وتضطلع بعدها الهاسبارا بتبرير ما لا يُبرَّر: أفعال الجيش الإسرائيلي هي دفاع عن الحضارة البشرية أمام حيوانات تجرؤوا عليها. ولتعظيم حيونة من يجب قتلهم وحتى نبش جثثهم من تحت الأرض، يسبق الاتهامات عرضُ واختلاقُ المبررات التي تسببت بهذا الفعل «الدفاعي»، ويضعها في سياق كارثة تاريخية يبتز بها مقترفيها التاريخيين، ويفتعل الاحتلال تأبيدًا لرثاء لم (ولن) يكتمل باستعادته المحرقة اليهودية، وهي استعادة ذات مفاعيل سياسية استعمارية تجاوزت منطقها الكارثي الإنساني وأنتجت، وتكمل في إنتاج، الكارثة الفلسطينية.

على المقلب الآخر، يبدو الرثاء عند بعض من هم خارج غزة رثاءً لفاجعةِ اكتشافهم أنَّ منظومة القيم والحقوق البشرية يمكن لَيّها بحسب العالم السياسي الذي تعيش فيه، ولفاجعةِ اكتشافهم أنَّ الهزيمة قد تلاحقهم من جديد رغم انزوائهم في عتمة المشهد منذ عقد. لكنَّ مشكلة بعض هذا الرثاء الخارجي، مجددًا، هو أنه يكمل في هربه من منظومة حقوقية بدائية باتجاه نظرة سياسية أكثر بدائية، ليتبنى منطق المؤامرة الذي أنتج الخراب في الدول العربية من دون أيِّ مراجعة لتاريخ انهيار دول ما بعد الاستقلالات الوطنية، ويموضع تبنيه هذا في منطق استقطابي: «نحن وهم».

وإذا كان التفصيل الاستعماري في «هم» جزءًا أساسيًا من المشهد العام، فإنَّ هذه المقاربة تغفل أنَّ «هم» هي «نحن وهم»، و«نحن» هي «نحن» متوهَّمة. فعربي اليوم (في السياسة) هو جزء أساسي من اللعبة الاستعمارية التي أنتجت الكارثة الفلسطينية ولم توفِّر لها مقومات الصمود. ومشكلة هذا الرثاء أنه يتخيَّل عربيًا متوهَّمًا، ولا يبدو مهتمًا بصنع عربي آخر في ظل انهيار دول المشرق وشمال أفريقيا العربية.

المستشفيات: الأبوة والأمومة والأخوة معًا

ضمن إعادة إنتاج الأواصر المجتمعية، تعيد كارثة غزة تعريف مهنة الطب لتسترجع معانيها الأصلية: السِّحْرَ والرِّفْقَ والدَّأَبَ والعادةَ والحذْقَ والمهارةَ وحسنَ الاحتيال. هذه السِّمات، التي قد تبدو أساسية للعلاج والإصلاح، ابتلعها نظام عالمنا تمامًا. ولكن تحت ضغط الحصار أولًا، والقوة الغاشمة ثانيًا، وجد أطباء غزة أنفسهم مضطرين للعودة إلى بديهيات مهنتهم، والرجوع بالمهنة إلى موقعها الريادي في الجماعة.

تحولت مستشفيات غزة، قبل إيقاف أغلبها، إلى مراكز لإصلاح الأجساد والأرواح والشعور. سيل الفيديوهات والشهادات من داخل المستشفيات ومن الأطباء أنفسهم يوفر الكثير من الأمثلة عن ذلك، من الطبيب الذي يعلم بمقتل ابنه ويمارس عمله، للممرضة التي رأت جثة أحد أقربائها فجأة خلال عملها، للولد الذي يؤكد لأخيه أنَّ كل شيء سيكون على ما يرام، للطبيب الذي يطلب من الأولاد أن لا يخافوا، لتحول المستفيات إلى باحات للجوء الدفن، لمرضى يكملون في حياتهم بعد بتر أطرافهم.

جعل كل ذلك الفائض الحدثي من المستشفيات الوجهة الأولى للغزِّيين. الشعور في فيديوهات المستشفيات غالب ويفيض عن المسلِّم بالنتيجة المعتادة التي تقع بين استمرار الحياة والقبول بالموت. فالناس في أحداث طارئة وضاغطة كالحروب، مضافًا إليها العنف الوحشي الإسرائيلي، تحتاج إلى الإفصاح عن شعورها، ومقارنته بشعور غيرها لتشعر بـ«شيء ما من الأمان» مع استمرار الإبادة. فيديو الطفل الشهير الذي يعترف بخوفه ما إن يحضنه الممرض مثال غضّ ولا إرادي عن معنى الاعتراف بالخوف ما إن تشعر بفرصة أمان، ولو غير أكيدة. هنا، تتركز الفرصة في وجود آخر يمكن أن تعتمد على وجوده لتخرج من نفسك.

هذا ما كرَّر أطباء ومسعفو غزة القيام به مع الجرحى والمنتشلين من تحت الأنقاض. جواب «ليش يا عمو متل القمر إنتي؟» على سؤال «عمو، رايحين عالمقبرة؟» هو مثال آخر على ذلك. ففي ظل وفاة الأشخاص أو مرضهم، أو انحدارهم اللحظي نحو الجنون وعدم قدرتهم على لعب دور دارئ الخطر عن أولادهم وإخوتهم وأهلهم، تحوَّل الأطباء والممرضون والمسعفون في غزة إلى آباء وأمهات وإخوة.

ولعل ذلك من ضمن ما أثار حفيظة الاحتلال تجاه هذه المراكز الإصلاحية والحافِظة للشعور. لقد أرادت القوة الإسرائيلية الغاشمة منذ اللحظة الأولى أن يُترَك المجتمع الغزِّي بلا وجهة، فلم توارب في استهدافها المستشفيات، بعد أن تخطت الإنكار الذي شهرته مع استهدافها مستشفى المعمداني. ولكن تاريخ غزة القريب يعلمنا أنها ليست المرة الأولى التي تخرج فيها إسرائيل مستشفيات غزة من الخدمة.

يوثِّق كتاب «سردية الجرح الفلسطيني» لميشال نوفل وغسان أبو ستة الصادر عام ٢٠٢٠ تفاصيل تعطيل إسرائيل للقطاع الصحي في حرب عام ٢٠١٤، حينما استهدفت تكرارًا سيارات الإسعاف، ودمرت مستشفى الأمل الذي كان مستشفى للشلل الكامل والأمراض العصبية المزمنة التي تحتاج إلى رعاية مستمرة. يذكِّر الكتاب في مقاربة أعم بدور الدولة في ضبط السياسة الحيوية، أي في منح الحياة وأخذها. ويفنِّد محاولات الاحتلال للسيطرة على السياسة الحيوية الفلسطينية (biopolitics)، وقبلها وتوازيًا علاقة الممثلين السياسيين الفلسطينيين منذ منظمة التحرير بالجرح الفلسطيني بوصفه أرشيفًا بيولوجيًا للسردية ضد الاحتلال.

فإذا كانت السيطرة على الجسم السياسي الفلسطيني قد تمثلت باتفاقية أوسلو، وأكملت مع انحدار المشروع السياسي للمقاومة الفلسطينية بمختلف أطيافها ضمن سياق عالم اليوم السياسي وعبر التفتيت الجيوسياسي لهذه المكونات، فإنَّ الاحتلال في حربه الأخيرة على غزة يستمر في محاولاته السيطرة على أجساد الفلسطينيين.

يشرح كتاب نوفل/أبو ستة أنه بعكس المشاريع الاستعمارية الأخرى، لا يهتم المشروع الاستعماري الاسرائيلي بالحفاظ على سلامة الجسد الفلسطيني فهو يمكن له بسهولة استبداله في العمالة التي يحتاجها، بل إنَّ فعالية العنف الإسرائيلي المطلق، بحسب الكتاب، تتحدد بقدرتها على إخضاع الفلسطينيين، وإعادة تشكيل وعيهم بشكل يضمن بقاء المشروع الإسرائيلي. وليحدث ذلك، على العنف أن يرتدي طابعًا طقوسيًا (استخدام التكنولوجيا، وتكتيك طرق الباب لتحديد الهدف - ويمكن إضافة مربعات الموت في الحرب الأخيرة)، وأن يبدو ذا سيطرة إلهية عبر تأصيل فكرة العلاقة الشخصية بين الضحية والجلاد (الاتصالات الهاتفية، المناشير الإعلامية الساقطة من السماء)، وأن يكون مفرطًا في القسوة والحميمية معًا (التعذيب المعلَن)، وعشوائيًا ودقيقًا في آن بشكل يتخطى المنطق العسكري والبوليسي (عنف من أجل العنف).

إنَّ الجسد الفلسطيني الحي هو رديف الجسم الفلسطيني السياسي، واستهدافه بعد انحدار الجسم السياسي يهدف إلى تقليل قيمته السياسية لدرجة لا يعيد إنتاج معها أي جسم سياسي آخر. وبِذا فإنَّ قصف غزة بمبانيها وشوارعها وجامعاتها ومستشفياتها والتعذيب على الملأ، والإفراط في العنف ليست أفعالًا «عشوائية»، بل هي استهدافات دقيقة لكل مكونات الحياة الفلسطينية، باتجاه محاولات تأليب المجتمع الفلسطيني والغزّي خاصةً على بعضه، ضمن المشروع الاستعماري الإسرائيلي الذي هو، كما المشاريع الاستعمارية الأخرى، مشروع طويل الأمد.

ومن هذا المنطلق، فإنَّ التنظير للـ«عشوائية»، وقبلها ومعها التنظير لـ«ذرائع إجرام الاحتلال»، يرفعان مسؤولية الجريمة الإبادية عن إسرائيل، ويوحيان أن إسرائيل وصلت لعشوائية قصفها للتو بذرائع توفرت لها، ولم يكن هذا منطقها الإبادي المستمر على مدار أكثر من ٧٥ عامًا. بمعنى آخر، إنَّ هذا النوع للتنظير الذي لا يهتم بشرح ضرورة إعادة إنتاج الجسم السياسي الفلسطيني المقاوم، هو -وإن بدا في ظاهره دقيقًا وموضوعيًا- تنظير لا ينتبه لأصل مشروع الاحتلال في محاولته المستمرة للتسلط على السياسة الحيوية الفلسطينية والجسد الفلسطيني.

الخرافة إذ تحدث أمامنا: تأبيد الكارثة حتى...
الشاب المغبَّر المُدمَّى الناجي من الهَوْل، الحامل جثة ابنه أو أخيه أو قريبه الصغير، الماشي بلا وجهة ولكن بثبات، هل ظن للحظة أنه خرج في عالم آخر وأنه في طريقه لإصلاح الطفل وبعثه من جديد؟

خطر لي السؤال لحظة رؤيتي الأولى والوحيدة للفيديو الذي ظهر أمامي على شاشة هاتفي. لقد بدا المشهد لي خارجًا من خرافة بعيدة حدثت (أو لم تحدث) في زمن بعيد، وأحالني ذلك إلى التفكير بأنَّ الخرافات لا يُنظَر إليها كخرافات إلا بعد حدوثها بزمن، عندما يعاد توصيف حدود المفاهيم الإنسانية بين مسموح وممنوع، واعتيادي واستثنائي، وحضاري وحيواني.

في بعض البلدات، داخل فلسطين وخارجها، الخُرَّاف هو الكلام عامةً، وخاصةً الكلام المفتقد للمعنى أو المالئ للفراغ. ويمكن أن ننظر للخرافة ككارثة تتخطى المعتاد بمفهوم قيم الزمن الذي أتى بعدها، ولكنَّ الإحساس بكارثيتها وقت حدوثها هو نوع من التذكير بأنَّ هذه القيم هي قيم موضوعة يمكن رفع وإنزال قيمتها بحسب الواقع السياسي الذي تعيش فيه. ولذا، فإنَّ الخرافة بعدما تتوسع على الشفاه، تستحيل إلى فراغ في التاريخ البشري يكمل في توسعه عبر الخُرَّاف المتزايد فيه والرثاء المستمر.

ترتكز الخرافة دائمًا على شرٍّ مستطير يخرج عن المعقول حتى يكاد يكون مستحيلًا ، ويُنتِج معه ردة شعورية إنسانية تأبى أن تسلِّم بمعقولية حدوثه. هذه الردة الشعورية لا يمكن لها إلا أن تخرج في الكلام واللغة رغم الصعوبة. حتى الذهول الصامت هو جزء من الإيغال في الرفض، ومن تحوُّل الخرافة إلى خرافية، أي إلى كلام مستمر لا نعرف الحقيقة فيه من الخيال مثل «خرافية» إميل حبيبي التي بدأ النص بمقطع منها يحيل إلى معنى بداية الخليقة والتمثُّل الطبيعي لها بين بر وسماء وبحر.

يشرح حبيبي في مقدمة كتابه «سرايا بنت الغول»، الصادر عام ١٩٩٢، سبب استخدامه لفظ «خرافية» للتعريف بكتابه، ويشير أنَّ استخدام الكلمة وقع دائمًا ضمن نطاق «الإدهاش»، والرجوع إلى عبارة «خرافيَّة» غالبًا ما يحيل إلى القفز بين الإيغال في تفسيرها (لاختصار التكرار في تفسيرها) و انعدام تفسيرها (للانتقال للحديث عن تداعيات الأحداث المدهشة التي حدثت). أما أصل اللفظ، فهو الخرف، وهو من جني الثمار وفساد العقل. وفي بعض العاميات الفلسطينية يطلق على من فقد صوابه: «إِمخرفن».

وفي متن وهامش صفحات خرافيَّة حبيبي تعليقات تُذكِّر بالرواية الإسرائيلية عن «أرض بلا شعب لشعب بلا أرض». ويبدو مع تتابع صفحات الكتاب أنَّ الرواية هذه تتلبس جسد المشروع الإسرائيلي لدرجة أنه يبدو مهجوسًا بانتشاره لمنع خطر «تحقق» الشعب الآخر في ذهنه. من ضمن هذه التعليقات أقاويل عام ١٩٨٣ في الدولة («التي لا تكف عن الانتشار» بحسب حبيبي) عن «أخطار «تسلل» جديد يقوم به «المتسللون» القدامى» وعودة المقيمين في الدولة إلى «رؤية الأشباح الهائجة في الأزقة والحواري»، وهي أقاويل سبق أن تُداولَت في عام النكبة الثانية (١٩٦٧). انتشار الدولة الإسرائيلية إذًا لم يمنع تسلل الأشباح إليها أو الهجس بالفكرة. وفي ٧ أكتوبر، ظهر الأشباح بشكل واضح للعيان بما يجانب الفكرة الشبحية، فكيف تبقي الرواية الإسرائيلية على مستوى الخطر بل حتى تصعِّد منه مع انهيار مفهوم خطر الأشباح؟ تحوِّل الأشباح إلى حيوانات تعدوا حدودهم وخرجوا من القفص، ما ينذر بالخطر المستطير على الحضارة البشرية.

يحيل هذا الخَرَف الإسرائيلي بدوره إلى فكرة النسيان عند الفلسطيني وعلاقته بكارثته. بشكل عام، يُفطَر الإنسان على النسيان، فيَنسى ويُنسى. لكن الإنسان الذي يرث كارثة، مثل الفلسطيني، لا يَنسى إلا كي يتذكر. وعدما يُنسى الفلسطينيون ومن ثمَّ يُستعاد ذكرهم، فإنَّ تذكُّرهم والتذكير بهم، يوصلان إلى الخلاصة نفسها: لقد كانوا أبطالًا في عالم غير عادل، وهذا وإن لم يكن كافيًا، ولكنه يذكِّر أن أحدًا شهد وجود الغشاوة في عالمه وأورث انتباهه لناسه.

ونسيان الكارثة المرحلي عند الفلسطينيين هو في أصل محاولات منع الخرافة من الحدوث مجددًا والإبقاء عليها في الماضي. فبنسيانها، تسلك الكارثة طريقها من منطق حدوثها الفعلي، لمنطقها الحكواتي والإذهالي. ومع تتابع الأجيال، يحاول الإذهال أن يعيد رسم حدود المستحيل وما يجب أن لا يكون عبر مقاومة تكرار حدوثه ماديًا وروايته كلاميًا (عبر الخُرَّاف). وهذه السمة التي تردم النسيان بالخُرَّاف غالبًا ما تتواجد في إرث سلالة الناجين من الإبادات في التاريخ البشري.

وهكذا، على وقع استمرار الإبادة، ينظِّف ورثة الكارثة أجساد معارفهم من الدم والغبار، ويغسلونهم في أذهانهم وذاكرتهم، ويروون قصصهم طيلة حياتهم المقبلة (إن كانت)، لتكمل الخرافة في تمددها بانتظار جسم سياسي يمنع حدوثها من جديد، ويعيد ردم الفجوة التي اتسعت في التاريخ.