Issue 2: Feminisms

أنْ نحتلَّ الاحتلالَ بلغةٍ كويرية: حوار مع راجي بطحيش أجرته سونيلا موباي

روان أبو رحمة وباسل عباس, لقطة شاشة من ١١-٥-٢٠١٥ و١١-١٥-١٦, ١٩ x ١٢ بوصة, مطبوعة بصبغة أرشيفية. مع الشكر للفنانين.

في عصور مضت كانت اللغة العربية والفارسية لغتي الثقافة والتفكير المتداولتين في الهند، في حين أن اليوم لا يكاد الأدباء من الهند يعرفون شيئا عن الأدب العربيّ وتاريخه والعكس صحيح. ولا يتواصل الأدباء من المنطقتين مع بعضهم البعض إلا بالانجليزية مع أن المنطقتين متقاربتين أكثر بكثير من قرب أي منهما إلى أوروبا وأمريكا الشمالية من حيث الجغرافيا واللغة والثقافة. لقد قام مؤخرا الكاتب الفلسطيني راجي بطحيش بزيارة إلى الهند حيث أحيا أمسيتين في نيودلهي وبومباي تمكن خلالهما نشطاء وناشطات نسويات هنود من حوار موسع معه حول قضايا الجندر والجنسانية بين فلسطين/إسرائيل والهند والروابط التاريخية بين الآداب العربية والهندية. يكاد العالم يجهل واقع الفلسطينيين المقيمين داخل إسرائيل بالمقارنة مع فلسطينيي الشتات، خاصة العالم العربي الذي ينظر إلى فلسطينيي الداخل نظرة الريبة والتشكيك في هويتهم والذي تعود على الأدب الفلسطيني المكتوب في المنفى ربما باستثناء بعض الأسماء مثل إميل حبيبي. لقد أتاهم راجي باتصال بل اصطدام مباشر بالآخر الإسرائيلي غير مزخرف بالكليشيهات المعتادة عن الحجارة والحنين إلى الزعتر والزيتون والصور النمطية الأخرى، ناسفا أنماطهم الجاهزة لصورة الفلسطيني المقيم على أرضه.

ونحن نشقّ طريقنا في الأزقة المغبرة عبر المنطقة التي تقع فيها مكتبة Left Word (الكلمة اليسارية) في نيودلهي حيث سيحيي راجي أمسيته الأولى، ذكرته فوضى الأحياء الشعبية هنا بأحياء مشابهة في المدن العربية التي زارها. يمثل راجي صوتاً تنويرياً وشجاعا في المشهد الأدبي حيث قدم لنا وجهات نظر متميزة طازجة من خلال نصوصه التي تطرح تساؤلات مستفزة حول السردية الوطنية الفلسطينية. صدرت له حتى الآن ثمانية كتب ما بين دواوين شعر ومجموعات قصص قصيرة ونصوص مفتوحة, كما يسميها. من أبرزها غرفة في تل أبيب (بيروت، المؤسسة العربية ٢٠٠٧)، بر - حيرة - بحر (عمان، دار أزمنة ٢٠١١)، وهنا كانت تلعب روزا (حيفا، دار راية، ٢٠١٣)، بالإضافة لمقالات عديدة في مجال الجنسانية والسينما والأدب في صحف ومواقع عربية مرموقة كالأخبار اللبنانية والقدس العربي وجدليّة. كما كان محرر ومؤسس زاوية كويريات الرائدة على موقع قديتا الفلسطيني، وهي تعد أول زاوية مخصصة للكتابة الكويرية في موقع ثقافي عربي. يدير ويحرر راجي حالياً موقع أنبوب وهو موقع مكرس للكتابة التجريبية العابرة للأجناس الأدبية المعتادة التي تواجه وصاية الأنظمة العربية السياسية والأخلافية على الثقافة. والأنبوب كما يراه راجي "هو المختبر الذي ننتظر منه أن يُنتج ما هو جديد وإما ألا ينتج شيء وإما أن ينفجر محتواه في وجوهنا." ويقيم راجي في الناصرة
حيث ولد وتربى ويعلّم السينما الفلسطينية والكتابة الإبداعية في الجامعة الإسرائيلية المفتوحة في الوقت الحاضر.

سنحت ل سونيلا موباي الفرصة بمرافقة راجي خلال رحلته فأجرينا هذا الحوار الموسّع الذي تطرقنا فيه إلى اللغة والترجمة والجندر والجنسانية ومقارعة الخطوط الحمراء والمقدسات الخاصة بالمسألة الفلسطينية والأدب العربي عشية عودته إلى فلسطين.

*

س: كيف تشعر كأديب في أول زيارة لك إلى الهند؟

راجي بطحيش: لم أستوعب بعد أني في الهند، أتساءل بين حين وآخر، غير أني لا أشعر بالغربة قط وبشكل عام أجدني أتعجب من الشعور بالغرائبية الذي يعبّر عنه الكتاب والمثقفين والناس عامةً الذين يقدمون إلى الهند من عندنا، أي من العالم العربي وبلاد الشام. لا أشعر كذلك إطلاقا. لعلني أجد كل شيء أكبر وأكثر تكثيفاً لكن روح المكان هي نفس الروح.

س: ولماذا برأيك لا يشعر المثقفين المشارقة بهذا التقارب الثقافي؟

ر.ب.: إن نيودلهي تبعد عنا [فلسطين] نفس المسافة التي تبعد عنا لندن لكن لسبب ما نحس بلندن ملاذاً ثقافياً لنا أكثر وعلينا أن نتوقف قليلا عند هذا الأمر. أعتقد أن السبب هو أننا تعلمنا منذ الصغر أنّ كل ما هو غربي ”ظابط“ أكثر وأكثر ترتيباً. ثم إن بلاد الشام صغيرة نسبياً من حيث عدد السكان، وهي عالقة جغرافيا بين أوروبا وشبه القارة الهندية ويظهر لي أن المنطقة الأوروبية استطاعت أن تستقطبنا وتجذبنا أكثر كي تقدم نفسها بصفة ملاذ.

س: رحلتك هذه إلى الهند أول رحلة لك تتجه فيها شرقاً [خارج العالم العربي]. هل يمكن لها أن تلهمك أدبيّاً؟ وما شعورك هنا على صعيد اللغة، بما أن هناك روابط تاريخية عريقة بين لغاتنا الهندية والفارسية والعربية...؟

ر.ب.: لا أستطيع بعد أن أجزم بذلك، غير أن ما يوجد حتى الآن داخلي هو حضور الإرادة العقلية لأرى وأعاين كل ما حولي، إذ أجد هذا المكان أكبر مني ومن مشاعري، لذلك لم أستحضر بعد ما تلقتطه الحواس أدبياً كوني منهمكاً كل الوقت بالتعرف على العوالم الجديدة بما فيها من ناس وروائح وأكل وغير ذلك...
لقد شعرت بقوة حضور اللغة العربية هنا، ليس بمعنى أن الناس يتحدثون بها بل بمعنى أنه بإمكاني استخدامها في أي مكان بكل أريحية، ربما لأني أتواصل معك بها لكني شعرت كذلك وبحق بأن اللغة العربية والقرآن والحضارة الإسلامية كلها متواجدة بقوة سواء عند الناس الذين التقينا بهم أو كتأثيرات في الأماكن التي تجولنا فيها، كما نجد تأثيرات من الثقافة الهندية عندنا.

س: كونك تسافر كثيراً، هل لك أن تعطينا فكرة عن كيف تترجَم تجربة التنقل والسفر كتابةً في نصوصك؟

ر.ب.: الكتابة عندي تتعلق بما أمر به من تجارب وبالمرحلة التي أعيشها، مثلا عندما سكنت في تل أبيب كان عندي فترة تل أبيبية وكل نصوصي تمحورت حول تل أبيب وقتذاك. ثم بعد أن انتقلت إلى الناصرة في الشمال،أصبحت أكتب كل الوقت حول ثيمة واحدة بالتكرار وهي الملانكوليا (القنوط)، أي أني فاقد كل ما حولي فأظل وحيداً مع الحجر والذكريات. وبالفعل تحققت هذه النبوءة لدي في الواقع، وهذا ما أنشغل به في هذه المرحلة وستتناوله روايتي الجديدة، سير رجال ونساء - لا يهم إن كانوا متخيلين أم لا - في هذا المضمار، مضمار الملانكوليا، ففيه كل شيء آيل إلى التفكك. إذن في هذه الفترة لا أستطيع الكتابة عن مكان آخر بمجرد السفر إليه، إنما يشكل لي هذا المكان مهرباً من العالم الذي أكتب عنه. طبعاً ذلك لا يمنع أن يكون هناك صورة أو مشهد ما يستثيرني هنا فأقوم بترجمته أدبياً وبدمجه في نصي.

س: وهل هناك صورة أو مشهد معين هنا استثارك؟

ر.ب.: إنما ثيمة معينة استثارتني كثيرا. بما أني أب لطفل عمره ثماني سنوات فأنا محاط بالأولاد دائما - بابني وأصحابه. وعالم الطفولة حولي غني جداً فأتعايش كل الوقت مع هذه الطفولة التي تطالبني بالمزيد والمزيد وكأنها بئر بلا قاع. لذلك كلما رأيت أطفال العشوائيات هنا ونحن نتجول، تتسمر عيناي بهم وأبدأ أتأمل سكينتهم وأتساءل بماذا يفكرون؟ ما احتياجاتهم ومتطلباتهم؟ أحياناً إذا رأيت طفلا صغيراً يسير بدون حفاضة تتملكني الرغبة بأن ألتقطه وأضعه في حقيبتي، ليس من باب الاستعلاء بل لأن عالم الطفولة شيء مهم جدا بالنسبة لي. فلا أستطيع أن أجزم، هل هؤلاء الأطفال مساكين أم لا؟

س: للطفولة حضور قوي في نصوصك، هناك تداخل بين زمن الطفولة وزمن النضج خاصة في مضمار الجنسانية.

ر.ب.: أجل، أنا من الآباء الذين يذهبون بابنهم في نزهة ويرحبون باصطحابه أصدقائه معه وعلى عكس الكثير لا أتبرم من الضجة والمشاغبات بل أشعر وكأني لا زلت أعيش طفولتي كل الوقت. وهذا الشيء موجود بنصوصي كثيراً. دائما هناك ذلك الطفل الذي يلعب وفي رأسه تلك الأسئلة الوجودية التي لا تنتهي، بالأخص في نصوصي الأخيرة، هناك استحضار للطفولة. وحتى في أحلامي تتكرر يومياً مشاهد مع جدتي أم أبي - تسلطها والبيت القديم ومن ناحية أخرى رقتها وأنوثتها وجمالها - وكيف كانت تقمعني وتجبرني على أكلات لم أحبها. ولعلني أمارس تمردي على الأكل أمام الناس بسببها. إذ كانت تقول لي أنك سوف تموت إن لم تشرب حليباتك، فصرت أكره الحليب وطلعت انتقائياً جدا في الأكل! نعم، الطفولة أساسية جداً عندي، ناهيك عن أني لا أستطيع أن أتخيل نفسي مجرداً من أبوّتي. مع أن ابني يسكن مع أمه فمن الصعب أن يحس بغيابي فأنا حاضر بكل تفاصيل حياته. في نفس الوقت أريد طفلي أن يمر بتجارب صعبة ويتعلم منها، لا أريد أن أجنّبه إياها منذ البداية. أفضل أن يمرّ بها ويمتعض أو يستمتع بها ثم نناقش الموضوع. ربما أنا بنيوي بعض الشيء في هذا المضمار...

س: بما أننا نتحدث عن الطفولة، وأنت من فلسطينيي الداخل (أي سكان الأراضي الفلسطينية المحتلة عام ٤٨) حيث اكتساب اللغة العربية ليس من المعطيات، وهناك تشكيك حول فلسطينيي الـ ٤٨ أنهم فقدوا صلتهم باللغة العربية؛ فمن أين اكتسبت أنت لغتك الأدبية؟

ر.ب: إذا لاحظت، لغتي ليست لغة مفذلكة أو فخمة، لكنها أيضاً ليست بركيكة، إنما هي قائمة بحد ذاتها، لغة قمت بتشكيلها بنفسي. يخيل لي أنه في السبعينيات كان هناك إصرار على الحفاظ على اللغة والتداول والكتابة بها في الحياة السياسية الناشئة داخل مناطق الـ ٤٨ لكن فقط بالأوساط السياسية، بينما أنا نشأت في بيت مسيحي تقليدي كان يعتبر السياسة شأن أناس بعيدين عنا. مع ذلك كانت اللغة العربية موجودة في حياتنا اليومية كأطفال خاصة وأن جدي من طرف أبي لم يكن يجيد العبرية ولم يكن يرغب حتى في تعلمها فكنا نشاهد التلفزيون بالعربية أو الانكليزية على المحطات الأردنية أو السورية أو اللبنانية التي كنا قادرين على التقاطها. في الحقيقة العامل الأكثر تأثيراً من ذلك كانت الطقوس الكنسيّة، حيث كان هناك بجوارنا دير ملحق بكنيسة كانت تصطحبنا إليها أمي كل يوم أحد في السابعة صباحاً. ثم وأن في هذه المرحلة تم تعريب كل الطقوس الدينية [في الكنيسة اللاتينية]. كل هذا مع العلم أن لغة الإنجيل والصلاة نفسها لم تؤثر فيّ كثيراً وإنما القصص التي كانت تروى [أثناء القداس]. مثلا بالنسبة للحي الذي كنا نقطنه، كانت مريم العذراء ذات أهمية تفوق أهمية المسيح نفسه، ليس لكونها أم المسيح فحسب بل لأنها كانت تعتبر الboss والملهمة الأساسية هناك أو كما نقول بالعربية الشفيعة. كانت تروى قصص عن العديد من العجائب - المتخيلة طبعاً - التي صنعتها العذراء والتي كانوا يتلونها في الكنيسة بلغة عربية جميلة جداً أعجبت بها أسلوباً ومحتوى ثم فيما بعد باللغة بحد ذاتها. مثلا عندما تنكشف لك أشياء في سن السادسة ككلمة البتول أو الشفيعة أو جلّ قاموس الخطيئة والخطايا والفداء وما إلى ذلك بدون ما تفقه معناها، ينفتح أمامك قاموس غني للغاية ساهم في تشكيل لغتي. على أني أظن أن هذا شيء أيضا نابع من اختيار، من إرادة عندي لقراءته ولأكون هكذا. ثم كان خالي الأصغر يسكن بجوارنا وكان يملك مكتبة ضخمة. عندما تزوج وترك البيت، ترك المكتبة وراءه فكنت أدخل وأقتعد الأرض وأقرأ في مكتبته. وكان هناك مجلة لبنانية اسمها “طبيبك” لا أعرف كيف كانت تصلنا - على الأرجح بالتهريب - وكانت الزاوية الجنسية فيها مشهورة جدا بيننا، فكنت أقتعد الأرض وأظل أقرأها وأتعرف على مشاكل الناس الجنسية وبالتالي أتعرف على لغة الجنس في العربية.

س: لقد نشأت في الناصرة، المدينة الوحيدة ذات الأغلبية العربية في دولة إسرائيل-

ر.ب.: بل كلها عرب

س: -نعم كلها، وهي مطوقة بهيمنة اللغة العبرية، فكيف كانت علاقتك باللغة العبرية وأنت تنشأ في هذا الغيتو العربي؟

ر.ب.: حتى سن الثمانية عشر كانت الخروجات مع الأهل كلها باللغة العربية، فإذا خرجنا من الناصرة كنا نذهب إلى القدس أو حيفا أو إلى الضفة الغربية لزيارة أقربائنا. حتى تل أبيب كانت تعتبر مشواراً فيه شيء من التحدّي كونها بلد الآخرين. لم يكن لأهلي أصحاب إسرائيليين نزورهم، كان أصحابنا من المثلث، من قرى الدروز، إذن حتى الثقافات الجديدة التي تعرفت عليها في الطفولة كانت ثقافات عرب آخرين. فإلى سن الـ ١٨، كانت اللغة العبرية شيئاً بعيداً. طبعاً يختلف الوضع في المدن الساحلية "المختلطة" كحيفا ويافا واللد والرملة، حيث اللغة العبرية مهيمنة أكثر على الناس (الفلسطينيين) هناك، حتى على الأطفال والأجيال الصغيرة. ولكن الناصرة حالة خاصة، فهي بمثابة دويلة محررة في قلب الاحتلال [الإسرائيلي]. للأسف حتى هنا الوضع آخذ في التغير بسبب العولمة عن الطريق العبرية، يعني فجأة غزتنا كل الماركات والشبكات العالمية التي يتم التعامل مع العاملين فيها بالعبرية لأن الدولة [العبرية] هي التي تولت وكالة الشبكات. ذلك بالإضافة إلى أن خصخصة الخدمات الطبية أدى إلى هذا الوضع وغيرها من عوامل.

س: بنصوصك أنت متواجد بقوة في الحيز الإسرائيلي حيث تحتكّ بالآخر الإسرائيلي احتكاكا شديدا خاصة في التجربة الجنسيّة…

ر.ب.: أجل ولكنه يظل آخر. في الواقع هو المحتل، بيد أني في نصوصي أنا الذي احتله باللغة العربية. هناك ناقد كتب أني أتعامل مع الآخر الإسرائيلي بندية أو حتى أني أحاول أن أتعالى عليه وأقزّمه. أعتقد أنه شيء ناتج عن خلفيتي الطبقية. ثمة الكثير من الكتاب عندنا الذين يتعاملون مع الآخر بعقلية الضحية أي كأنهم ضحاياه وخاصة الكاتبات بينهم؛ إذ يتم التعامل مع الذات كضحية أبدية، ضحية الرجل والمجتمع والاحتلال. بالطبع هذا يتداخل ويتشابك مع قضايا عدة، مثلا أن تكون الكاتبة بدوية أو من الجنوب، أي أن هناك عناصر توجد فيها احتفالية بالضحية. أعتقد أن ما يميزني هو أني لست كذلك، ليس عندي هذا الإحساس بأني ضحية” وكثيرا ما يغيظ هذا الذين أمامي، فكأني بهم يقولون ”مين أنت؟ مين مفكّر حالك؟”“

س: في معرض الحديث عن العلاقة باللغة، لنتطرق إلى موضوعة الترجمة. أنت الآن تعمل مترجماً لكسب الرزق فضلا عن أن الترجمة موجودة لديك منذ سن مبكر بحكم الحالة اللغوية التي يعيشها فلسطينيو الداخل. لقد وصف الشاعر العراقي سركون بولص في مقابلة له الترجمة بنوع من التمرين اليومي الذي يقودك أحيانا إلى تجاوز نفسك واللغة لاختراع نوع جديد من التراكيب الشعرية وبالتالي يؤثر عليك كشاعر عندما تكتب. وبناء على ذلك ينصح كل شاعر أن يحاول ممارسة الترجمة حتى لو كان ذلك من أجل لذته الشخصية. فما علاقتك بالترجمة؟

ر.ب.: الترجمة هي بالأساس مصدر رزق لي ولكن لو لم أستمتع بممارستها لما اتخذتها عملاً. صحيح أن في الترجمة لعب على تقاسيم اللغة وأنك تكتشف من خلالها لغتك الأم وتعبيرات جديدة، لا سيما وأني أعمل في مجال ترجمة المواد الطبية والاقتصادية فأحياناً أعثر على مصطلحات غريبة عجيبة لم أكن أعلم بوجودها. اذن أتفق مع سركون في أن الترجمة نوع من الممارسة اليومية تقوي لغتك فاذا بحياتك تصبح كلها لغة. لم أتحدَّ نفسي بعد بترجمة النصوص الأدبية لكتاب آخرين باستثناء محاولات بسيطة - ذلك مع العلم أن نصوصي قد تمت ترجمتها إلى أكثر من لغة .

س: كيف تشعر وأنت تقرأ ترجمات لنصوصك ؟ هل هناك اختلاف في الشعور بين لغة ولغة؟

ر.ب.: لا اعتقد ذلك، أرى نصوصي منفتحة ثقافيا وقابلة للترجمة إلى أي لغة والحفاظ على نفسها لأني نفسي شخصية هيبريدية، يعني هجينة كما نقول، ذلك أني لست شخصاً ينحدر من خلفية "أصيلة" أي من سوق قديم لم أخرج منه طوال عمري. بالعكس، لي علاقة جدلية مع عروبتي وكذلك توجد علاقة جدلية عندي بين اللغتين العبرية والعربية، (وبدرجات أقل مع اللغات الأخرى). لن أقول إن هناك انفصام في الشخصية عندي إنما ثنائيات فعالة كل الوقت، إذ أحياناً أفكر بالعبرية وأحياناً أخرى بالعربية وبالتالي أجد نفسي منفتحاً كأديب على الترجمة. هذا أولاً. ثانياً، بعد أن أكون قد كتبت نصي ونشرته (أو لا) يحدث عندي فقدان للذاكرة ولا يعود إليّ ذلك النص إلا إذا ما طلب مني قراءته في أمسية أو قرأه شخص آخر أمامي ما يجعلني أرتبك خاصة إذا قرأه مترجماً إذ أخاف إذا سألني أحدهم عن ظروف وخلفية كتابة النص أو عما قصدته في مكان ما منه بينما أنا نسيت تماماً وأصبحت منعزلاً عنه. لا أدري إن كانت هذه مشكلة أم ميزة. يبدو أني أطابق ذلك الكليشيه الذي يقول إن العمل الفني ما أن يخرج من يدي المؤلف حتى يصبح ملكاً للمتلقي الذي له الحرية في تلقيه كما يروق له.

س: لماذا برأيك لم تحاول الدولة الإسرائيلية أن تُنسي فلسطينيي الداخل لغتهم العربية؟

ر.ب.: كان بإمكان الصهاينة منع تعليم اللغة العربية وعبرنة الفلسطينيين الذين نجوا من التهجير عقب النكبة، إنما ما قاموا به هو تشويه اللغة وإفقارها متعمدين ضربها. من ناحية أخرى قاموا بالفصل في التعليم بين اليهود والعرب؛ فبموجب القانون يتعلم العرب في مدارس عربية واليهود في مدارس عبرية فنادراً ما يحدث أن يكتب عربي باللغة العبرية أو بالعكس غير تجارب معدودة، مثلا سيد قشوع.
س: أو أنطون شماس الذي كتب روايته “أرابيسك” بالعبريّة -

ر.ب.: حسنا أنطون كان بسبب دراسته وتخصصه، ولكن ليس هناك صراع هويات هنا كما هو الحال في الجزائر مثلاً، حيث يتساءل الكاتب هل لغتي الأم هي العربية أم الفرنسية. ربما لأنهم قدموا إلى فلسطين كشعب ناشئ أي أنهم كوّنوا شعباً على أرض فلسطين فلم يكونوا قادرين على ممارسة الهيمنة اللغوية لأن لغتهم أصلاً لم تكن مهيمنة بل كانت في طور إعادة الإحياء. لقد اتخذوا قراراً استراتيجيا جريئاً بالفصل بين الشعبين من الناحية اللغوية، كما أنهم قاموا بتغريب اللغة العبرية عن العربية وإزالة العلاقة العضوية بينهما. مثلا مسحوا عن الذاكرة كل الفقهاء اليهود الذين عاشوا في البلاد العربية وكتبوا باللغة العربية كموسى بن ميمون الملقب رمبام بالعبرية كي يبرزوا مكانة الأشكناز.

س: في سياق الحديث عن العلاقة المفقودة بين العربية والعبرية، دعني اسألك عن علاقتك بالأدب العربي القديم لا سيما أن قاموس الأدب القديم غني
بالألفاظ الجنسية وأنت ككاتب معني جداً بالجنسانية…

ر.ب.: لقد كانت علاقتي بالأدب العربي القديم إشكالية ولا تزال، كنت أحسها واجباً ثقيلا خاصة أيام المدرسة حين كنا نطالَب بإعراب أبيات شعر كاملة، لكن عندما كبرت وبدأت أكتب بدأ يعود إلي كل الشعر القديم بدءاً من المعلقات وما بعدها مما وقع من ذاكرتي فاذا بي استحضر بيتاً أو قصيدة كل الوقت. يمثل الأدب القديم غنى كبيراً للغة، لقد اجترحوا تعبيراً لكل شيء يمكن أن تتخيليه، فهم أقاموا علاقة سهلة ولينة جداً بين اللغة وبين الحياة اليومية كي يطوّعوا اللغة لكل ما أرادوا الحديث عنه. هذه العلاقة اللينة بالذات قُطعت في الزمن الحديث فبالنتيجة أصبح الأدب الحديث الذي تربيت عليه وبالتالي الذي أصبحت أكتبه معقماً ومهذباً زيادة عن اللزوم. لذلك عندما اتخذت قراراً واعياً في مرحلة معينة أن أكتب نصوصاً جنسية كويرية، عمدت على سبيل المثال إلى كتابة الأير أيراً بدل "تهذيب" الكلمة، واستخدام عبارات كفنون النيك وإلى آخره لأنها ليست دخيلة على لغتنا العربية بل هي جزء لا يتجزأ منها. ذلك لأني أصبحت أرجع شيئاً فشيئاً إلى مصادر التراث وأغترف منها. طبعاً هذا لا يعني أني أصبحت حافظا لمتون التراث أو حتى أهم أعماله وقصوري في هذا المجال ما زال كبيراً. لكن بما أننا قفزنا من العصر العباسي الثاني من ناحية كتابة جنسية إلى الوقت الحاضر فأنا بحاجة إلى مرجعية لغوية علي أن استعين بها لتطوير لغتي، وهذا شغل أبذل جهداً كبيراً فيه لكنه شغل ممتع للغاية.

س: حسنا، عندما تقرأ نصاً ما من التراث العربي هل تشعر وكأنك تقرأ نصاً في لغة أجنبية؟

ر.ب.: من ناحية نعم هي أجنبية كونها تحتاج إلى شرح في الفصحى المعاصرة كي أفهمها، ولكني...مع أني لست عروبياً، فإني أفتخر بهذا البحر اللغوي الذي ليس له حدود والذي يمكن تطويعه لأي غرض.

س: وفيما يخص الكتابة الكويريّة هل هناك نصوص أو مصادر معينة استفدت أو اغترفت منها، أفكاراً ومصطلحات ومعاني؟

ر.ب. لقد استفدتُ ليس فقط من أشعار أبي نؤاس بل أيضا من شاعر آخر اسمه صفي الدين الحلي وكل نوادر الغلمان بشكل عام وأنت تقرأهم تشعر كأن … اليوم عندما تقرأ كاتباً عربياً يتناول الجنس تشعر وكأنه يحسسك بالذنب، وكأنه يريد أن يظهر لك كم هو متحرر ولكن أولائك لا...تشعر وكأنهم يكتبون بدم بارد، أي كأنه أمر يومي طبيعي وليس كأنهم اكتشفوا الجنسانية مجدداً. يكتبون بأسلوب سهل ممتنع وهذا ما أحسدهم عليه، وهذا ما نعجز عن الوصول إليه حالياً، أي أن نكتب عن الجنس بدون تكلف وبدون أن تشعر القارئ أن - واو - لقد صرت إنساناً ليبرالياً فجاة. كل هذا مع العلم أن معظمهم كانوا فقهاء وعلماء إسلاميين معتبرين. و لكن لا ينبغي أن ننسى كل عصور الجهل والذل التي علينا تجاوزها.

س: هل هناك مفردات معينة من الأدب القديم لا توجد في القاموس الحديث عالقة في ذهنك أو استفدت منها؟

ر.ب.: ليس هناك مفردات معينة وإنما فكرة إنتاج المتعة كجزء من الحياة اليومية، أي أن عملية الإنتاج هذه كانت حاضرة وطبيعية كحاجة يومية مثلها مثل الأكل والشرب ... الخ. وأشعر بأن هذه العملية تعرضت للبتر أو الاغتيال والآن نحن بصدد محاولة إحيائها.

س: يبدو لي منذ زمن طويل أن الهوية الفلسطينية هي بحد ذاتها نوعاً ما هوية كويريّة. هل تتفق مع هذا الشعور وكيف وأين ترى التقاطع بين الكتابة الكويريّة التي تحاول أن تؤسس لها وبين الأدب الفلسطيني عامة؟ هل الكتابة الكويريّة ستؤسس لمرحلة جديدة في الأدب الفلسطيني، هل ستقودها إلى فضاءات جديدة؟

ر.ب.: نعم، طبعاً يرتبط الأمر بكيف يتلقى المرء هذه القضية، إذا كان الكاتب يسعى إلى التحرر الوطني بمفهومه التقليدي وتشكيل نفس الجسم الدولاتي القمعي الموجود في سائر بلدان العالم. أما من منظوري، لماذا يترتب علينا كفلسطينيين السعي إلى إنتاج هذا الكيان العنيف الذي يسمى ”دولة“؟ لماذا لا نصنع دولة حب أو دولة كويريّة مثلا كيفما نتصور الفكرة؟ طبعا يعاني الفلسطينيون من الاحتلال والأبارتهايد وعدم وجود كيان مستقل ولكن انظري إلى نماذج الدولة التي حولنا، كلها أظهرت لنا كم أن الدولة هي حيز لإنتاج العنف وبالتحديد العنف الهوياتي، أي أنه عليك في كل نقطة زمنية أن تحدد من تكون وماذا تكون وما علاقتك بالرموز الوطنية كالأعلام والنشيد الوطني. ثم شخصيا أنا أنظر إلى الهوية الفلسطينية كنوع من اللاهوية. على سبيل المثال نحن الفلسطينيون ما زلنا نتناقش كل الوقت حول نشيدنا الوطني وعلمنا هو علم تحرري أو حركي أكثر منه علم وطني، فمن الطبيعي أن كل هذا يعني عدم وجود الأب عندنا، أو أن هناك فراغ أبوي كبير عندنا أو أن الأب ربما مات. ليس لدينا جيش وإذا كانت هناك شرطة فهي أقرب إلى نكتة. أعتبر كل هذا طابعا كويريّاً في كيان الإنسان الذي ينتمي إلى هذا الشعب المناضل [يقهقه].

س: وهل ترى أن بإمكان هذه الكويريّة إثراء مسار الثقافة الفلسطينية؟

ر.ب.: نعم، خاصة وأن فكرة الأرض - الأم المغتصبة لم تعد طاغية على الأدب الفلسطيني كما كانت. هناك تحولات جارية...لا أدري فلست ناقداً أدبياً ولكن ينتابني شعور بأننا نتحول تدريجياً من القضية الكبرى إلى القضايا الصغرى. مع هذا فالأديب الفلسطيني ما زال أسير توقع أن يكتب شيئاً معيناً، وهذه هي الإشكالية أو المشكلة الكبرى إذ هناك فئة من الكتاب وصناع السينما والفنانين الذين لا يتمردون على هذا التوقع. مثلا إذا ذهبت إلى مصر أو لبنان لإحياء أمسية لا يزال يفترض مني أن أزوّد الجهمور بالبضاعة التي يتوقعها، أن أظل أتحدث عن أطفال الحجارة أو مش عارف أيش. بإمكان الكتابة الكويرية أن تحدث تغييراً في هذا المجال، إذ أن معظم المراجعات التي تناولت كتاباتي أشادت بالانتهاكية الموجودة فيها، أقصد بانتهاك المقدسات والثوابت الوطنية الفلسطينية التي لا يجوز أن نحيد عنها والتي أحيد عنها باستعمال السخرية الوقحة والبذيئة في بعض الأحيان وغيرها من أساليب. مثلا مرة كتبت في قصة أن ”فلسطين زي كس العقرب“ وهذا كما تعلمين مثل شائع ولكن لا أحد يجرؤ على إيراده في نص أدبي، كما كتبت قصة عن قرية فلسطينية مهدّمة بصفتها مكان للقاءات جنسية عابرة بين الرجال.

س: أنت تنتمي أدبيا إلى جيل التسعينيات (مع تحفظنا على مفهوم الأجيال الأدبية)

ر.ب.: جيل التسعينيات هو الجيل الذي أعقب الانتفاضة الأولى. وكان جيل الانتفاضة ملتزماً جداً بفكرة الحجارة والمقاومة وما إلى ذلك، ولكن جيلنا خاصة الذين جاؤوا بعد اتفاقية أوسلو عام ٩٣ - ٩٤ بالقصيدة والنثر الذاتيين قام بقفزة أدبية كبيرة؛ فبعد كل الشهرة التي نالها شعراء المقاومة من الداخل، جئنا نحن نتحدث عن موضوعات غائرة في الذاتية والسوداوية والغموض. لا بد لي هنا أن أشير الى الفائدة الكبيرة التي استفدناها من تحول محمود درويش عند إصداره ديوان “لماذا تركت الحصان وحيداً” الذي شكل قفزة، يعني من هذا الديوان فصاعداً استفدنا كثيراً من روح التحول هذه التي استمرت عنده حتى وفاته. خاصة وأن جيلنا مصاب بالعقدة الدرويشية أو متهم بذلك على الأقل، فلقد حاول كل واحد منا بطريقته الخاصة أن يهرب منها قدر الإمكان إلى أماكن أخرى…

س: نعم، يجب أن أسألك كيف حاولت أنت شخصياً أن تخرج من ظل المؤسسة الدرويشية؟

ر.ب.: أعتقد أني مختلف تماما. أولأ منذ سنة ٢٠٠٠ تقريبا لم أصدر ديواناً شعرياً بالصيغة التقليدية، بل أكتب الشعر وأدمجه في سياق قصصي، فسرديتي مختلفة تماماً حتى أنها انتهاكية كما أسلفت. محمود درويش مؤدب جداً في شعره، ولغته راقية ويحاول جاهداً أن يحافظ على رصانة رجل المؤسسة في حين أني بالعكس، لقد تحررت من هذا الجو. ولكن غيري لا، ما زال عالقاً هناك.

س: سوف تعود عما قليل، الليلة، إلى فلسطين من شبه القارة الهندية. هل هناك شيء تغير فيك؟

ر.ب.: طبعاً، خاصة وأني على وشك بداية فصل جديد في حياتي العائلية بعد أن فجعت بوفاة والدتي قبيل سفري فينتظرني المجهول عند عودتي. لا ريب أني سأنظر إلى البلاد بمنظار آخر بعد عودتي، منظار ينظر من الشرق وليس من الغرب لأول مرة في حياتي.