وكأن بساتين ليمون تعصر بلؤم ٍ في معدتها
رولا الحسين
ستعود أختها غداً صباحاً وهي ليست مستعدّة لهذا اللقاء. ستضطر للنظر مباشرة في عينَيها وهذا ليس بالأمر السهل. وحتماً ستُرغم على الابتسام والاستماع. عليها أن تُشعرها أنها بخير كي لا تقلق عليها، وبالتالي تتفادى أن تقلق هي على أختها لقلقها عليها؛ مشقّة ليست مستعدّة لها.
تتذكّر حين كانت ما تزال تعيش عند أهلها كيف كانت تعود إلى البيت متّجهةً إلى غرفة النوم مباشرة دون النظر يميناً أو يساراً، كي لا تضطرّ إلى النظر في عينَي أمّها. تقول: «مرحبا» فقط. وعندما تخرج، تجلس دون أن تلفظ كلمة.
كانت تعابير وجهها تشير إلى عدم رغبتها بأي اتصال مع أي شخص. طبعاً استغرقوا وقتا طويلا ليفهموا معنى هذا التعبير، لاسيما والدتها. حتى عندما فهمته، لم تلتزم به حرفياً. باتت مع الوقت تعلم أنه لا يمكنها التحدّث إلى ابنتها حين تكون في هذه الحالة، أي في عزلة. في البدء كانت والدتها تسألها: «شو بكي؟ في شي زاعجك؟» وأحياناً تتجرأ وتضع يدها على شعرها، أو تمزح معها لتخفّف من وطأة كدرها دون أن تعلم سببه. وردّ ابتتها الدائم: «ما في شي».
مع الوقت، اكتفت الأم بالنظر، وهي تحوّل ردّ ابنتها إلى إشارة نفي ترسمها بحاجبَيها.
كانت نظرات الأم ثقيلة عليها، وقلقها عبئًا. كانت تسألها: «بتتعشي؟» ورغم جوعها، كانت تردّ بالنفي، خوفاً من أن تُشعِر كلمة «نعم» والدتها أن بإمكانها التحدّث الآن. وبعد دقائق معدودة، تدخل المطبخ وتأكل ثم تعود إلى غرفة الجلوس حيث يجلس الجميع، وترمي بجسدها على الكنبة الطويلة، وتدسّ نفسها تحت بطانيّة، مغطّيةً وجهها تمامًا، وتغرق. لكنها الآن لن تتمكن من فعل الشيء نفسه مع أختها. لا تريدها أن تقلق. هي مشتاقة إليها، لكن لا قدرة لها على إظهار هذا الشوق وتطويره. تريدها أن تعلم بكل شيء من دون أن تضطر إلى قول أي شيء. وتريد أن تعرف عن أختها كل شيء بدون أن تسمع أي شيء. أو حتى من دون أن تكون ملزمة بإظهار أنها تستمع. فالكلام لا معنى له. لهما التاريخ نفسه والذكريات نفسها. أثر الكلام سيكون كأثر مشاهدة فيلم للمرّة الخمسين. الكلام سيكون أقلّ قيمة من الصمت. تتمنّى، عادة، وجود شخص ثالث فتستطيع أن تتحدّث عن شيء حدث معها. لأن ردّ فعل أختها، مهما كانت وطأة الخبر، سيخفّ ويختلف عندئذ.
سماع ما تعرفه هو ما لم تكن تقوى عليه. لا حلول لديها، فلمَ الكلام؟ مزيد من القلق والحزن لهما معاً، وهذا ما لا تحب مشاركته. كانت تعتبر الحزن شخصياً جداً. بعكس الفرح. يمكنها أن تفرح وترقص حتى مع الغرباء. لكن الحزن منطقة خاصة، محظورة. تصبح أنانية معه. حزنها ملكها. يمكن للآخرين أن يعرفوا به، لكن ليس منها. هي لا تؤمن بالطقوس الجماعية للحزن. ستصل أختها في السابعة صباحًا وبالرغم من أنها أعلمتها أنها ستستقلّ التاكسي من المطار إلى البيت، إلا أّنها استيقظت في السادسة صباحاً تفكّر في فراشها وتتقلّب حائرة إن كان عليها الذهاب هي لإحضارها. الاستيقاظ باكرًا مؤلم. التفكير باكرًا مزعج. تشعر بالذنب لأنها تعلم أن أختها لم تكن لتدعها تستقلّ التاكسي لو كانت هي القادمة من السفر. لكن هذا الشعور لم ينتج عنه أي مبادرة. بقيت مكانها، في سريرها، تؤنّب نفسها وتنتظر تمامًا كما كانت تفعل في منزل أهلها حين تقوم أمّها بجميع أعمال المنزل. تغسل وتكوي وتكنس وتطبخ وهي مستلقية في مكانها تفكّر وتؤنّب نفسها. تراقب والدتها، تحقد عليها أحياناً بسبب كثرة الأعمال التي قرّرت القيام بها دفعة واحدة. كما تعتب عليها سراً لأنها اختارت وقتاً لا يناسبها.
سمعت صوت المفتاح يدور في قفل الباب. أغمضت عينَيها بشدّة وأدارت وجهها إلى الحائط. سمعت حركة الحقائب بين غرفتها وغرفة أختها، ثم شعرت بأختها تطلّ من الباب كي تُلقي عليها التحية وتعلن وصولها. لكنها لم تتحرّك.
لم تفتح عينيها. بل نامت.
خائنة. خائنة صامتة. خائنة مستلقية.
تخون الجميع كي لا تخون نفسها. لا يمكن الاعتماد عليها. كانت تشبّه نفسها بسابينا في رواية «خفّة الكائن التي لا تُحتمل» لكونديرا. هذا هو كيتشها: الخيانة.
لم تستطع ان تكون جزءاً من أي مجموعة. فرديَّتها مقدَّسة. حتى حين يجذبها شيء ما، ترفضه وتسخر منه وتحصن نفسها أكثر وأكثر بالمزيد من الصمت والانعزال والحزن.
استطاعت أختها تكوين صداقات، وعلاقات منوّعة ومليئة بالأحداث. كانت مع صديقاتها تتبادل الفساتين وأحمر الشفاه ووصفات الطعام والأدوية المهدّئة. يجتمعن حول طاولة مستديرة في أي مناسبة ليقرّرن كيف تتصرّف إحداهن في أمر ما: زوج خائن، موعد أول، ورم حول المبيض. يتخيّلن مناقشة ستحصل في لقاء اليوم التالي بين إحداهن وحبيبها. يضعن برنامجاً مكثفاً النشاطات، وهنّ يعلمن جيدًا أن ممارستها لن تطول ولكنها طريقة لتقبّل فكرة انفصالات وخيبات عاطفية محتملة، مع التصميم على الاستفادة من كؤوس الفودكا والكرانبيري المجانية المقدّمة للنساء فقط كل ليلة ثلاثاء، والمضي كل ليلة أربعاء لمشاهدة أفلام غالبًا ما تكون انتقامية أبطالها من النساء. يحفظن تواريخ أعياد ميلادهن، ومواعيد حيضهن، ووقت إزالة الشعر الزائد وتقليم الأظافر ومقاسات الثياب الداخلية لكل منهن وعيوبها وألوانها. عاملات، مديرات، مهاجرات، متروكات، متحرّرات، راغبات، مرغوبات، ملعونات، مسكونات، خائبات، فرحات وجديرات بتفاصيل أغنى وليالٍ أهنأ وأكتاف يلقين رؤوسهن عليها وشفاه يتكسّرن عليها.
نساء لم تعرف هي الدعوة أو رفضها. هكذا دون التزامات أو تبريرات أو حرج.
بعد عودة أختها، عادت عادات ما قبل مغادرتها. فهي لا تملك سيّارة لذا ستعود أختها لتقلّها من العمل وإليه وهي في طريقها إلى عملها كل صباح وعند عودتها مساءً.
الصمت ثقيل جداً خاصة حين تتشاركه مع أحد. وبالأخص إن كان هذا الأحد قلق على صمتك ومنه، ويحاول إخراجك منه. كانت أثقل أوقاتها هي تلك التي تشارك أختها هذا الصمت.
كان باستطاعة أي سؤال سخيف أو تعليق تافه أن يحدّ من قلق أختها عليها، وكم كانت تتمنى أن تبصق هذا السؤال، هذا التعليق… هذه المهمّة المستحيلة.
ذات صباح، نظرت إلى أختها وهي تقود السيّارة. وجَّهت إليها كل الأسئلة والتعليقات، لكن بصمت، بينما الدموع تنهمر من عينَيها بصمت أيضاً. كانت تردّد في صدرها كل التفا صيل التي تعلم جيّداً أنها ستُفرح أختها. حوّلت رأسها إلى النافذة وأكملت بكاءها الصامت. وعندما وصلت إلى مكان عملها فتحت باب السيّارة وقالت «باي» بصوتٍ مخنوق دون أن تنظر إليها، بينما يد أختها تشدّ على يدها شدّت بدورها للحظة ثم سحبت يدها بسرعة وهربت.
وهي بعيدة عنها كانت تشعر بشوق كبير إليها، بأنّ عليها الاتصال بها وإظهار حبّها لها. كانت تريد إخبارها بأنها أقرب كائن إليها وأنها فرحة بكل الإنجازات التي حلمتا بها أثناء المراهقة كامتلاك سيّارة أو العيش في منزل لوحدهما أو السهر لوقت متأخّر. كل الإنجازات الصغيرة المشتركة وكل الصفات التي استعارتاها من بعضهما البعض، كل الشجارات والحب…
كانت تقرّر أنّها حين تصل البيت ستضمّها أو تقبلها وتسألها عن يومها وربما تدعوها إلى شرب القهوة. كانت تشعر بفرح وهي تفكر بلقائها بعد العمل… لكن شيئاً من هذا لا يحدث. فالصمت نفسه، والثقل نفسه، وهي نفسها. الثقل يمتد معها من العمل إلى البيت. ثقل الوقت في العمل مختلف. ثقل لا قلق من طرف آخر خلفه. ثقل الهاتف الذي تخاف أن يرن، والأحاديث التافهة التي تتجنّبها، والأعمال التي لا تلمّ بها والتي يجب عليها أن تقوم بها، البرد القارس الذي يكوي أحشاءها، الساعة التي تأخذ أكثر من وقتها وهي تدور بعقاربها. ثقل يُذكِّرها بفيلم كانت قد شاهدته منذ زمن، ويجعلها إحدى شخصياته: "clock watchers". فيلمٌ عن نساء جميلات، عاديات، عاملات، خجولات، غاضبات كئيبات، يجلسن خلف مكاتبهن في ترتيب يشبه صفوف الدراسة. ينظرن إلى ظهور بعضهن، كآلات يطبعن على آلات كاتبة. يراقبن بعضهن. ساعات طويلة تجمعهن، وساعة واحدة على الحائط يحسبن دقّاتها لتعلن موعد الغداء. غداء قد يكون على باب مصعد أو في حمام صغير… مجرّد فرصة للثرثرة. الساعة نفسها ينظرْنَ إليها من جديد ليعدن إلى آلاتهنّ وحزنهنّ. والدقّات نفسها، يُكملْنَ عدّها ليعدْنَ إلى منازلهنّ التي قد لا ينتظرْهُنّ فيها أحد.
بالنسبة لها هي، كانت تحدد وقت كل ساعة لتمضية دقائق في الحمام. تفكر، تبكي، تنام، تبعد… في الحمّام. كانت تَعُدُّ الوقت لتصل تلك الدقائق التي يختلف عددها مرّة عن مرّة بحسب الفرصة المتاحة. هو المكان الوحيد الذي يخفّ الثقل فيه. وكانت ترعبها فكرة أن تجد أحداً في الممر وهي تخرج من الحمام، فقد تكون تلك مناسَبة مناسِبة للتحدث. لم تكن تفعل شيئاً مهماً في عملها. كانت تكرهه. تكره الاجتماعات وتبادل بطاقات العمل، وتكره اضطرارها أن ترتدي ثيابًا محدّدةً وألواناً محدّدةً لتتناسب مع أجواء العمل المحددة.
وعندما تضطر إلى حضور اجتماعاً مع أحد، كانت تلاحظ ان الآخر يتكلم بينما هي توجه اليه أسئلة بنفس الوقت ولكن بصمت. كأن تقول: «من تظنني؟ أنا لست من أُوحي أني هي… لا يهمني أي شيء مما تقوله… أنا أصلا لا أفهم ما تقول… هذا ليس مكاني… لو تتوقّف عن الكلام حتى أسرق لحظة وأخرج من هذه الغرفة…»
كانت تُنهي اجتماعها بأسرع وقت ممكن، وتعود إلى مكتبها. وفي معظم الأوقات تعود إلى حمّامها.
لم تحقق أي إنجاز في عملها. لم تتعلم شيئاً. لم ترد أن تتعلم شيئاً. كانت تمضي وقتاً ثقيلاً تعدُّ دقائقه، متحسرةً على دقائق سابقة لم تعد تملكها.
بعد اجتماع تافه لا تذكر منه شيئاً، هرعت إلى حمام الشركة، وأسندت رأسها بكفيّ يديها الإثنين وأخذت نفسًا عميقاً. وفكرت بالوقت. بالأيام الطويلة والساعات.
متى تكون الساعات ألطف وأخف وطأة؟ متى تجعلنا ساعاتنا أسعد؟ هل يمكن للساعات أن تكون مصدراً للمرارة؟ أم أن النساء وحدهنَّ ينجذبْنَ لها؟ هل يحزنهن طول الساعات أم قِصرها؟ خفتّها أم ثقلها؟ تلك الساعات التي تصبح أيام حيْض، ثم تطول لتصبح شهور حمل، ومن ثمّ سنوات يأس، هي نفسها التي تقصر لتكون لحظات متعة.
كلّما فكرت بالساعات سرقها الوقت. وأسعدها ذلك قليلاً في ذلك اليوم، لأنها لم تشعر بالانتظار وثقله، ووصلت أختها لتقلّها بدون أن تدرك الوقت.
«هاي» هذا كل ما قالته عندما دخلت السيارة. سألتها اختها إن كانت تريد أن تأكل بطريقة ودودة وحريصة وكأنّها تسألها سؤالاً يؤذي مشاعرها وتحرص أن تسأله بلطف. «لا» أجابت.
كانت جائعة، لكنّها لم ترد أن تعترف. انتظرت الوصول إلى البيت. ثم اخذت مفتاح السيارة باللحظة التي كانت تعلم أن أختها تنظر إليها، فتعلم أنها خارجة دون أن تضطر أن تخبرها. ذهبت إلى الدكان القريب لتأتي بأي شيء تأكله في السيّارة. عندما عادت وركنت السيارة، كانت لا تزال تفكر بالساعات. لم تترجل من السيارة. بقيت محدقة، ساكنة، حانقة وغاضبة وعلى وشك الإنفجار. كانت تشعر أن الغصة تكاد تخنقها. كانت تشعر أنها في مأزق.
ما الصعوبة في ارتداء بدلة؟ ما الغريب في حضور اجتماع؟ لماذا الخوف من الكلام؟ متى أصبحت النظرة في عيون الآخرين مباشرة عملية مستحيلة؟ انفجرت. ما هذا الكابوس، ما هذه المعركة؟ معركة يدخلها الكبار حين لا يعودون أطفالاً. كيف تهرب من المعركة الحياة؟ ماذا سيفعل والدها ليخرجها من هذا المأزق؟ أيّ كلمات ستقولها أمها لتريحها؟ هل ستضمد لها جرحاً؟ هل تحضر لها عشاءً؟
كانت تشعر أن القسم الأكبر من جسدها عالقٌ بين فكي قرش، وأسنانه تطحن قفصها الصدريّ. ويطلّ وجهها ورقبتها وكتفيها من بين الفكين. لا تقوى على الصراخ. تحاول بصمت ان تنشل نفسها. وتشتهي لو يبلعها وينقذها من هذا الألم المرعب.
لو فقط تستطيع أن تمدّ ذراعها داخل فمها لتنزلق داخل القفص الصدري وتمسك بألمها وترمي به بعيداً. لو أنها تخرجه كفضلات سامة من جسدها. لو أن نقطة أسيد يمكنها أن تذيبه، لو أنه بقعةً تستطيع فركها حتى تتشقق يداها لتزيلها وتعيد إليها لونها الأصليّ. هذا الألم الذي يشبه العصر وكأن بساتين ليمون تعصرُ في معدتها. لو أن البتر يزيله، لو أن النوم يسكنه، لو أن شراء الفساتين يلهي عنه، لو أن لونًا يصبغه ويخفي سواده، لو أن خبرًا ما يخفف من حدّته، لو أن طلاء أظافرك الأحمر يزيل بعضًا من مرارته، لو أن فكرةً تُشتت انتباهك عن السرطان الذي يمسك معدتك، لو أن ذاك الحاجز الزجاجي من حولك أسمك قليلاً، لو أن كحلاً يخفي حزن العينين، لو أن غناءً يمحي ذاك اللحن اللئيم…