Issue 3: Dictationship

في الدكتاتورية واللغة والمرأة

دُنى غالي

دُنى غالي
في الدكتاتورية واللغة والمرأة

1
عن الرغبة بالاختفاء لأن الكلمة عصية وعن يد الرجل الأكبر /الأعلى

عندما لا تنُصت الكلمات جيداً أفكر أن لافائدة، وأعود لأحسد من جديد كل المُدرَجين في صفحة الوفيات في سرّي!
آخرهم كان صديقا مُقرّباً، نامَ ليلة الأربعاء في سريره وقرّر ألا يستيقظ صباح الخميس، مع أنه لا يعاني ما أعانيه، مع الكلمات. كعادتي، ومن دون حكم مسبّق، أو تهجّم أو تجنٍ، أو ما يُقال عن الشعور بالدونية، وبعيداً جداً عن الموجات الأربع للنسوية أفكر (كتبتُها خطأ أكفر!) لأنه ببساطة رجل الكلمات تُربّت على كفّه التي تَكبُرُ كفّي مرتين. الكلمات خاصّته ربما من سلسلة جينية حديدية، كما لو أنها... ماذا؟ تخطر ببالي تواليتات في محل عام! يساراً للرجال ويمينا للسيدات، مختلفة تماما، بتصميمها برائحتها، بمباشرة اليسار وانغلاق اليمين.
لغته تمرّ ولابد عبر فلاتر أخرى. أتخيل فلتري الأنثوي، معقّد متعدد الطبقات، لايرشح منه غير أكثر الكلام تدويراً ونعومة!! أنفرُ ما أكتبه لمسالمته، لا، لا أجهل سبب مقتي، ولكني أمقت الحقيقة التي تتصامَمُ ابنتي عنها وترفض حتى النظر في عينيّ. لن تغفر لي هذا الـ ... ستسمعني وإن همستُ، حسنا لنقل التوق للانسحاب لا الموت!
انتهى الأمر، أقول انتهى الأمر، وأعني أني لن أعيد كتابة الفيلم، أعني لا يمكنني، أقصد... وتدنو يدي من العَقْد بسهوٍ منها. ممكنٌ للهب الشمعة أن يحولّه رماداً، محض قصاصات لاتفرش قاع أصغر سلة مهملات إن مزّقته بيدي. يدي التي تصغُر يده بالقليل مرتين.
نعم أدري، لم يبق إلا القليل على النهاية ولكن! التفاصيل فقدتْ دهشتَها الأولى، ولم يبق هناك غير توضيح بسيط، وقليل من تحليل مفترض سلفاً، ومقاطع "فلاش باك" معدودة. لا شيء يقنعني، كما تزعجني "النهاية" وهي تلوحُ أمامي، تنزل بحذر من أعلى الشاشة معلنةً عن حماسة فاترة.
يدُها الترفة، ابنتي، بكل ثقل جسدها على كتفي لتجلسني في مكاني، تقف عند رأسي وتأمرني؛ هيا، الآن، امحي "لمن عاصروني، نعم انتهى الفلم، وما عليكم إلا أن تتقبلوا ضياع سعر البطاقة المدفوع فيه"

“The handsome modern dad from the new school of Nordic cool”
تحت عنوان "كفاحي" لكارل أوفه كناوسغورد الذي استعاره من هتلر تترى الكلمات مصفوفةً، تَصِف الثواني والدقائق والساعات والأيام والسنوات في سبعة أجزاء، تجاوزت الـ 6.9 كيلو الآن من لحم العائلة، الأب، الأم، الزوجة، الأطفال، العم، الخال وغيرهم. هل كسِبَ المعركة وكتب التاريخ؟ هل لذلك علاقة بحجمه؟ بدلته الحليبية المجعدة من الكتّان؟ الخصلات الطويلة الملبدة لشعره المزيّت، الكف، أم الأصابع؟ نوع الحبر، أم ماركة الكمبيوتر؟ بينما خسرتُها أنا سرّا، خسرتُ، ودفعتُ ثمن عَنَت الكلمات معي؟ تَعْنَتْ لأني لاأحبها وهي تطلع مني.
(بل لأنكِ حمقاء. صح ولكني على حق. لديك حقا مشكلة. لا أنا إنما المشكلة.)

شربتُ القهوة مع كاتبة دنماركية تخطّت السبعين، قالت بتفكه خفي لو كانت امرأة مَنْ كتبتْ السبعة أجزاء من الرواية السيرية لقيل إنها يوميات امرأة حسب. الريادة التي حُسِبَت للكاتب قد سبقه فيها العديد من الكاتبات منذ السبعينات والتي تم التعامل في الغالب معها كتزجية للوقت. ماقالته ملخص لمجمل النقاش الذي دار في هذا الخصوص في الصحافة الأوروبية وبعض الصحف الأمريكية التي نعتته ب"الأب العصري المثير"، بعد أن صدرت روايته السيرية بنسختها المترجمة إلى اللغات الأوربية والإنجليزية في الولايات المتحدة الأمريكية. ولكي لا أُعدّ كافرة بعين من يقدسّون كتاباته أقول لامجال لعرض أوجه المديح للعمل، عدا عن نسبة المبيعات العالية جداً فقد حظت الأجزاء جميعها بمتابعة وتقدير واهتمام بالغ من قبل النقاد ونالت العديد من الجوائز، ودارَ كناوسغورد لسنوات معظم أوروبا ومؤخرا بعض الولايات الأمريكية ليجيب على أسئلة المحاورين والقراء.

الكلمات، أم الحياة؟ كما قلتُ هي الكلمات، قطعتْ عليّ الطريق وعلى بنات جنسي، وصارت معاركنا بفعل ساحرٍ خبيث محض مطعمّات، مقبّلات، منمنمات وردية! الحياة وهي ترثنا أخطاء جينية وتنتقي الأقوى دوننا. أراني ألوي ذيلي وأنتحي جانباً، بينما الأب الاسكندنافي الشاب أعلاه وهو يصف الطريقة التي غيّر فيها حفّاظ طفله أثار شهية القراء في كل مكان! وحقيقة أن الكتابة لإحداهن طريقة للبقاء على قيد الحياة لن تتغير، ولكن ما سيكتبنه سيظل لتبديد الوقت، تشكّي حقيقي، نرجسية في أحسن الأحوال!
يحكمني دلع كفاحي كما يوصم، منمنمات معركتي ونرجسية استسلامي. وأحيانا وأنا دائخة أتلخبط بقراءة الإشارة على الباب، سهمٌ أم صليب! لأن فكرة أن أدخل تواليت الرجال بالخطأ ترعبني حقاً.

تواليتات التأويل
ككاتبة فأنا أؤمن باختلاف تناول الرجل للجنس عنه لدى المرأة في الغالب. كراوية جعلتُ على سبيل المثال الرجل/الزوج في “منازل الوحشة” يغيب، يختفي شيئاً فشيئاً في توغله في حقل ارتفعت أعشابه في توصيفٍ للحالة الشعورية خلال ممارسة الحب. بالمقابل وحين عثرتْ الراوية ذاتها في النهاية على الأوراق الأدبية للرجل/الزوج ذاته قرأتْ له وصفاً حسياً مادياً بكلمات فجّة مباشرة من دون إحالات وتورية للمشهد الجنسي بين رجل وامرأة.
الكاتبة تخفق عموما في جرّ القاريء لمعرفة الفوارق بين تناول الرجل وتناول المرأة لموضوعة معينة. غالبا لايدرك القاريء رغبتها في استعراض هذه الفوارق بشكل غير مباشر!
وهناك كاتبات يُجدْن إنتاج لغة جنسية ذكورية مباراةً مع الكاتب الرجل، أو بسبب ذاتها الممسوحة.
قراءة النص للمشهد الجنسي ستختلف أيضا فيما لو كان الكاتب امرأة عنه لو كان رجلا، إذ لايتوقف القاريء عموماً عند ذلك لو كان النص لرجل، بينما جميعنا يعرف حينها الكلمة جرأة/جريئة التي تقترن بكتابات المرأة فقط.
كما بينت بعض الإحصائيات الأوروبية والأمريكية إن قراءة الرجل للأدب الذي يكتبه رجل أكثر من قرائته للأدب الذي تكتبه امرأة، إن لم نقل عزوفه عن قراءة نصوص المرأة. البعض يعزو ذلك إلى طبيعة بشرية تميل إلى اختيار قراءة الأعمال لذات الجنس أكثر من قرائتها لأعمال الجنس الآخر والكتّاب من الذكور أكثر عددا من النساء الكاتبات إجمالا.
البعض الآخر يعزو ذلك إلى ذكورية العالم ولغته كحالة متداخلة.
ولاغرابة أخيرا أن تطرأ ببالي أفكار شيطانية كأن أحذو حذو كارين بليكسن وأنتقي لي إسما ذكوريا كالذي اختارته!
كارين بليكسن( 1885- 1962) كاتبة دنماركية كتبت تحت اسم" اسحاق دينيسن". تعلل اختيارها للإسم "اسحاق" لكونه يعني في الأصل "ضحكة". حيث ورد في كتاب التوراة أن سارة ضحكت حين وعدها الرب ب"اسحاق" وهي في ذلك العمر. تصريحها كان قبل عامين من وفاتها. هل سخرت كارين بليكسن من العالم بذلك لتكسر احتكار الرجل للكتابة بطريقتها، أم أن ضحكتها نمّت عن رجاء وأمل بمواصلة الكتابة لاسيما وقد بدأت الكتابة في عمر متأخر.

2
She speaks Pidgin
"كنا والله مرتاحين، بس الرِجّال، ماي هازباند هَرَبْ، ران، ران، فاهِم عليّ؟ أندار ستاند؟ يو سي نو وورك، نو موني، نو هوم، عفّشوه، كل الهوم عفشّوه، إي والله، آي سي إن ماي آيز، ظلوا هالتلاتة معي، كانوا فور، واحد منهم راح، كان فْبطني، هيير، ونزل بالطريق، بالأمبولانس، إنْ توركي، ذات بيفور سِي، سي يو نو، ذا سي، خَلَصْ بَسْ، راح هلاّ، يمكن أحسن الله أخدو، يلعن روح العالم، نو ميلك بصدري، ويي كو أَنْدْ كو، ناو نو فوود، يلعن أبوه، انشاءالله ربي ياخذو، أدعي اليوم كلو، آي براي فور كاد تو تيك هيم، أند بشّار، إي والله. كاد بِكْ. دخيلك شوف إلنه هوم، تْعبنه، طلّعْ إلنه شي بايبر، باسبورت، وثيقة منشان هالأولاد... "
(في مقابلة أمّ لاجئة سورية مع مكتب إدارة اللاجئين -جزيرة كيوس، اليونان)

"أحمد كام حبيبي. استعجل بيبي، اركب. كيف كانت السكول اليوم. منيحة مِسْ سَمار، رايت؟ بوت السكولباك عل الفلور، اربط الحزام. يو هانكري؟ أكلتْ اللنج بوكس تبعك؟ إيت أول، هه؟ يو دونت آنسر حبيبي؟ يو تايارد؟ دونت سلييب، يلله شوي وحنوصل على الهوم. ما في آي باد، ولا كيْمز، يو ووش يور هاند عَبال ما حضرّلكْ يور فود."
(حديث أمّ عربية داخل السيارة لطفلها في طريق العودة من الروضة -من العرب المقيمين في دولة الإمارات)

ليس العجز عن توصيل شعور ما وحده هو المشكلة في بلد غريب ولغة مختلفة، ولا صعوبة التواصل بسبب اللغة، ولا مكانة اللغة كـ"بريستيج" وهي الحالة المنتشرة لدى الكثير من العوائل العربية، ولكن عدم إجادة الإنسان الناضج للغة يجرّده من نضجه، يصبح فارغاً، معتوهاً وغبياً، يُختَزَلُ حتى في حجمه ويتحول إلى طفل (رجلا كان أم امرأة)، قد يستدرّ العطف وقد يثير الضحك خلسة.
كريستينا هاين (Christina Hagen 1980)، الكاتبة الدنماركية أصدرت روايتين لافتتين تحت عنوان "البنت البيضاء" و"بويفرند" بالصياغات المختزلة والإملاء المكسّر للغة الإنجليزية
"Pidgin talk" الذي يعتمده الشباب والشابات في العديد من جزر الهاواي وتايلاند للتواصل مع السياح. الإبداع في لغة العمَلين الأدبيين الدنماركيين عكَسَ الحالة السياسية والاجتماعية للمحيط الذي تحركت فيه الكاتبة/الراوية، تحديداً النظرة إلى المرأة البيضاء السائحة.

3
نص ميثاق شرف الجسد (بالألوان)

أ. وردية الجسد
جورب الرضيعة، ملابسها الداخلية، القبعة وثوب الأميرة والريش، والأقلام ودفتر الروضة والدرّاجة وشرشف السرير ووجه الوسادة، وشريط حملة مكافحة سرطان الثدي..

ب. أحمرُه
فرْكُ اليدين وخجل المراهقة في الخدين، أحمر الشفاة، ليلة الزفاف، صوت الآهة المكتومة، الصفعة، دورة النزول، والمطالبة مؤخراً بـ "النزف الحر" وهو تعبير نسوي عن الاعتزاز بالجسد الانثوي وردٌّ على عدم طهارتها خلال هذه الفترة. وعجيب أن الأحمر وفق القاموس المحيط هو مَن لا سلاح له!

ج. أزرقُه (مرحلة متأخرة)
بدأتْ الحكاية بالخنصر
كان يأبى أن يتصالح معي
ففكرتُ بقطعه
وتكرر الحال مع أخوته
لم يعطّلني غيابهم عن مهمتي
ولكنني في كل اصطدام كنتُ أنزف
و كل ما بقيّ اليوم مني
فائضٌ من الحبر
محض أثر.